ما إن تحدث الجريمة من طرف حتى يتهلل الناجون من الطرف الآخر ويستحم قادتهم بالدماء التي أريقت ليغسلوا أرواحهم من ألم وجرم الجرائم التي ارتكبوها بحق اليمنيين القتلى أو الجرحى سواءً أكانوا محاربين أم مدنيين والذين لم يكن لهم يد في الصراع أو حظ في نتائجه ومآلاته، وصارت المناكفات الحزبية والحرب الإعلامية الناعمة أشد وأنكى، وأكثر إيلاماً ووجعاً مادياً ومعنوياً من الحروب التي تدار على الأرض بالقوى الصلبة والنارية المدمرة.
كل طرف يريد تجريم الآخر والتنصل من المسؤولية الدينية والأخلاقية والدولية أمام الرأي العام الدولي والمحلي، علماً بأن الجريمة الكبرى هي الحرب بذاتها، ويتحمل وزرها ونتائجها من أوقدها وأشعل نارها ودق طبولها بدايةً قبل الدخول فيها، ومن تنكر لكل مبادئ السلم الديني والقانوني الدولي والمحلي، وذهب للحرب عنوة لتحقيق غاية أو لكسب مصلحة.
والكل يرى الدماء اليمنية تسيل أنهارها في كل وادٍ وسهلٍ، وقريةٍ وجبل، لجنود وقادة سواءً كانوا عسكريين أم سياسيين أو علماء من أي طرف كانوا، فهم في الأخير خسارة على اليمن والشعب اليمني الذي أنفق عليهم من دماء قلبه في سبيل تأهيلهم وتدريبهم لخدمة اليمن وحفظ سيادته وأمنه، إذاً فهي المصيبة التي لم يصب بها اليمن عبر تاريخ حروبه الطوال، حيث تجاوزت المدى وفاقت كل التوقعات، وحيّرت المحللين وخيبّت آمال كل المتأملين، نتيجة تداخل الحرب بالسياسة، والتجارة بالدين، والقانون بالعرف، وصارت سحابةً سوداء تضلل آمالنا وتحجُبُ حلمنا في خلواتنا، وتغسلنا بالنار فنكتوي بنارها، مع افتقارنا لضمير مسئول يفيق من غفلته أو مؤمن مصلٍ يستجيب.
وحتى نضع النقاط على الحروف بحيادية وتجرد ، فقد بدأت الفتنة بقيادة محمد عزان وفريقه المؤسس للشباب المؤمن لإحياء تراث المذهب الهادوي وتجديده حسب إفادته في أحد لقاءاتنا به، وتنامت الحركة بشكل مناقض لمبدأ تأسيسها بعد أن ركب موجتها الراكبون حتى نحت منحاً آخر، وبدأت تتفجر ينابيع الدماء من صعدة.
كان حينها الإخوة الحوثيون يدَّعون المظلومية ويتوسلون بالقاصي والداني للتوسط لوقف الحرب التي أشعلوها، وذات مرة اتصل عبدالملك الحوثي بالنائب عبد العزيز جباري كما أخبرني شخصياً كي يتوسط لدى القادة السياسيين لوقف الحرب ضدهم، لكن رقعة الحرب توسعت حتى أصبحت ساحة للتصفيات السياسية بين أقطاب الحكم في صنعاء.
وتوالت الأحداث التي جعلت علي صالح يلعب بالنار، فتمدد الحوثيون خارج صعدة بدعم منه، وانقلبت الآيات فصار جباري يجوب العالم باحثاً عن وساطة لإيقاف الحرب ضده واليمن قاطبةً من الحوثيين وصالح ولم يسلم حتى بيته وأغراض منزله من النهب والدمار.
ساسة محبوطيّ العمل مترافق مع سوءٍ في التدبير وطرق بدائية عمياء في التفكير، من الكل ضد الكل، في البحث عن الحلول لتحقيق الأهداف السياسية أو المذهبية أو الحزبية، و كان بإمكان الحوثيين أن يتصدروا المشهد ويتزعموا القضية لو أنهم لعبوها سياسة واستغلوا المكسب السياسي الذي حققوه قبل دخولهم صنعاء وإسقاط الجرعة التي خنقت صدور الناس.
وأشعلوا النار على رؤوس الجبال فرحاً وطرباً بإسقاطها، وترقب الناس رسو السفينة على شاطئ يجتمع فيه كل أطياف المجتمع، وللحوثيين الصدارة والبطولة حسب إفادة وأمل كثير من قادة الفكر والسياسة الذين التقيت بهم حينها، وارتياحهم الخائف إلى حدٍ ما لأن عصر القبيلة حسب قولهم أنقضى وعهد التفرد ولّى، والتخلص من قادة المعسكر القديم الفاسدين قد تحقق، إلا أن الموجة لم تقف عند هذا الحد واندفعت بعيداً حتى تجاوزت ظلها وسماها.
خاب ظن علي صالح ومؤتمره ومعاونوه بعد أن خانهم الذكاء وآثروا العجلة والإنتقام والعودة إلى السلطة من أقرب الطرق، فتاهوا وأُحرق نصفهم، والنصف الآخر ينتظر الذوبان في بحر الفتنة التي أُشعلت، وتحقق قول الله " إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ" بسبب سوء النية وغياب الضمير.
ولو أنهم راقبوا الوضع واشتعلوا سياسية إضافةً لامتلاكهم كل أدوات تحقق الرجوع إلى السلطة بأقل كلفة وأيسر جهد، كان لديهم حزب وأنصاره وقواعده واستثماراته متواجدة حتى في جزر البحار، ولديهم جيش تحت إمرتهم ونصف الدولة العميقة إذ لم يكن كلها، وشعب لو تحسست أوجاعه وطبطبت على كتفه واستمعت لهمه وحققت له ما استطعت لوهب لك كل ما يملك وطاف سبعاً وحج حول صناديق الانتخابات ورشح من أردت.
لكن العمى والحقد والجهل والتفرد بالرأي أغرق فرعون وملكه الذي كانت تجري من تحته الأنهار، وقارون الذي كانت تنوء العصبة من الرجال من حمل مفاتيح خزائنه، وبرغم نصح مشايخ اليمن وعلماؤها وعقلاؤها والمتخصصين في كل مجال، إلا أنهم لم يستجيبوا لأي ناصح ولم يستبيوا الرُشد إلا وحمم الحرب تحرق كل شيء، وصدق الشاعر دريد بن الصمة حيث قال:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى*** فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغدِ