قبل شهر فقط، استدعاه الرئيس المعزول عمر البشير إلى القصر فأقسم في حضرته عشرون من كبار الجنرالات على الالتزام بالدستور واحترام القوانين والحكم الديمقراطي والتفاني في خدمة الشعب والوطن.
وفي الخميس الماضي عطّل الجنرالات الدستور واعتقلوا الرئيس وقرروا حل المؤسسات الديمقراطية، وعلى الفور اتصلوا بالرجل ذاته فحضر متأنقا ووقف هادئا مسبلا يديه حتى أقسموا على احترام ما ألغوه في اليوم ذاته.
وبعد 23 ساعة وأربعين دقيقة، أحس الضباط بأن الميادين الهادرة لم ترض عنهم، فخلف بعضهم بعضا وأبلغوا القاضي الكبير فحضر بالليل متأنقا ووقف هادئا ومسبلا يديه أيضا، حتى أقسم أمامه رئيس المجلس العسكري الجديد عبد الفتاح البرهان بما أقسم عليه سلفه عوض بن عوف.
وخلال أقل من 48 ساعة بدا كل شيء في السودان قابلا للسقوط والزوال والتقلب، فقد اقتُلع المشير البشير وحل البرلمان ومجلس الوزراء وتدحرج الجنرالات واحدا تلو الآخر وفتّحت أبواب السجون أمام كبار الساسة والوزراء.
لكن رئيس القضاء مولانا عبد المجيد إدريس علي ظل ثابتا في مكانه يحضر في الوقت المناسب ليقسم العسكر ويحنثوا بين يديه، ثم ينصرف راشدا إلى مكتبه أو منزله، لا يهمه من سيتولى مقاليد الحكم في الغد.
رجل الطوارئ
الرجل الذي التحق بسلك القضاء في عام 1981، تدرج في المسؤوليات العدلية في مختلف ولايات السودان إلى أن أصبح من كبار القضاة وشغل منصب رئيس الجهاز القضائي في أم درمان وولاية الجزيرة قبل أعوام.
وفي عام 2014، عينه المقتلع عمر البشير نائبا لرئيس القضاء الذي كان حينها مولانا حيدر أحمد دفع الله.
وعندما توفي دفع الله في ديسمبر/كانون الأول الماضي، أصدر البشير مرسوما رئاسيا بتعيين مولانا عبد المجيد إدريس علي لشغل أكبر منصب قضائي في عموم السودان.
حينها كان شعب السودان يتأهب للغليان رفضا للقمع والاضطهاد والإفقار، فيما كان البشير يُلقي عصاه ويعجم عيدانه ليرميهم بأمرها وأصلبها وأكثرها فتكا واختراقا للصدور.
وقد كان مولانا عبد المجيد إدريس على قدر المسؤولية، فدشن عهده بتشكيل محاكم طوارئ من الدرجتين الابتدائية والاستئنافية بكافة ولايات السودان.
تلبي محاكم الطوارئ رغبة البشير في وأد الثورة في مهدها، وتختص بمحاكمة المتهمين "بمخالفة أحكام القانون الجنائي لسنة1991 وقانون الطوارئ وحماية السلامة العامة لسنة1997 وأوامر الطوارئ الصادرة من رئيس الجمهورية".
التاريخ يسجل
يومها علق السودانيون بأن التاريخ لن يغفر للرجل تشكيل محاكم طوارئ في القرن الحادي والعشرين، لكن مولانا عبد المجيد إدريس لم يعبأ بهم أبدا فقد كان يستصوب فهم البشير وتصوره للحق والعدل والحرية والإنصاف.
وقبل محاكم الطوارئ، عرف عن سيد القضاء اهتمامه بمحاربة الفساد، لكن لم يحدث أن حاسب أيا من سدنة النظام الضالعين في بلع خيرات بلاد النيل والخصب والسدود.
وفي أكثر من مقابلة صحفية يبدو الرجل محاميا شرسا عن النظام ويتبنى وجهة نظره في العديد من القضايا، مثل تعديل القوانين الجنائية وتشديد تشريعات الإرهاب والنشر في وسائل الإعلام.
وعندما سُئل عن استقلال القضاء رد بالقول "نحن ممنوعون تماما من ممارسة أي نوع من السياسة وممنوعون من الانتماء إلى أي حزب مهما كان حتى ولو كان المؤتمر الوطني".
ودون أن يُعير أي اهتمام لتعليق المواطنين على مصداقية تصريحاته، شدد ذات يوم على أن الرئيس البشير "لا يملك الحق بأي حال من الأحوال في التدخل في الأحكام القضائية. هذا لم يحدث ولن يحدث. فأنا أؤكد أن القضاء مستقل".