[ مراسم توقيع اتفاق الرياض بين الحكومة اليمنية والانتقالي ]
منذ أحداث أغسطس 2019 في العاصمة المؤقتة عدن، لا يكاد تصعيد ما يسمى المجلس الانتقالي الجنوبي ضد السلطة اليمنية الشرعية يتوقف إلا ويعود من جديد، وكلما دفعت دولة الإمارات "الانتقالي" للتصعيد، تبادر السعودية إلى استئناف دعوتها للطرفين إلى التهدئة واستئناف مشاورات استكمال تنفيذ اتفاق الرياض، ومع تكرار هذه المشاهد منذ أكثر من عام ونصف العام، يبدو وكأن الجميع يدورون في حلقة مفرغة، لكن تصعيد "الانتقالي" الأخير، بعد عودة رئيسه عيدروس الزبيدي من زيارته لدولة الإمارات، بدا وكأن الأوضاع عادت إلى ما قبل اتفاق الرياض.
بداية التصعيد الأخير
بدأ تصعيد المجلس الانتقالي ضد السلطة الشرعية منذ مطلع مايو الماضي، بعد عودة رئيس المجلس عيدروس الزبيدي إلى العاصمة المؤقتة عدن قادما من دولة الإمارات، ويبدو التصعيد وكأنه حصيلة لتلك الزيارة، وبدا الزبيدي متحمسا للتصعيد منذ لحظة عودته، إذ عقد اجتماعا لما تسمى هيئة رئاسة الانتقالي، دعا خلاله إلى وجوب مشاركة المجلس في مفاوضات العملية السياسية الشاملة لتمثيل الجنوب على طاولة المفاوضات.
وبما أن عودة الزبيدي من الإمارات وفي جعبته خطوات تصعيدية بإملاءات إماراتية تزامنت مع حراك شعبي مندد بتدهور الوضع المعيشي والأمني في مناطق سيطرة المجلس الانتقالي، خصوصا العاصمة المؤقتة عدن، فقد أربك ذلك الزبيدي وقيادة الانتقالي التي بدت متخبطة ومتناقضة في تصريحاتها، خصوصا أن الحراك الشعبي يدينها كسلطة أمر واقع فاشلة، وبدا ذلك التخبط، أو التناقض، واضحا في كلمة الزبيدي، يوم 21 مايو الماضي، تزامنا مع ذكرى إعلان انفصال جنوب اليمن عام 1994، حيث حمّل الزبيدي الحكومة مسؤولية تدهور الأوضاع، وطالبها بالعودة إلى عدن لأداء مهامها وصرف الرواتب، وبنفس الوقت وصفها بالاحتلال ودعا إلى مقاومتها، في تناقض مثير للسخرية.
بعد ذلك، انتقل تصعيد "الانتقالي" ضد السلطة الشرعية إلى الجانب العملي، مثل السيطرة على مقر وكالة الأنباء اليمنية "سبأ" في عدن، وتحويله إلى إحدى الهيئات الإعلامية للانتقالي، وإعلان تعليق مشاركته في مشاورات تنفيذ اتفاق الرياض، والتهديد بشن حرب للسيطرة على محافظتي أبين وشبوة ووادي حضرموت.
كما اتجه "الانتقالي" للتصعيد ميدانيا ضد السلطة الشرعية في محافظة أبين، وتحديدا في منطقة خبر المراقشة التابعة لمديرية أحور، مما تسبب باندلاع مواجهات بين الطرفين، وما زالت بعض مديريات محافظة أبين تشهد توترا ينذر باندلاع مواجهات جديدة، في حين تتهم الحكومة اليمنية "الانتقالي" بعرقلة استكمال تنفيذ الشقين الأمني والعسكري من اتفاق الرياض، ورفض "الانتقالي" سحب قواته من كثير من المواقع المتفق على انسحابه منها، واستمراره في تجنيد قوات خارجة عن وزارتي الدفاع والداخلية.
وفي بداية يوليو الجاري، انتقل التصعيد إلى مرحلة متقدمة، لكن "الانتقالي" لم يفلح في تحقيق مكاسب تذكر، وبدأ التصعيد بعد أن شهدت المنطقة المجاورة لإدارة أمن مديرية لودر اشتباكات بعد رفض المدير السابق تسليم الإدارة، أعقب ذلك إعلان مليشيات "الانتقالي" أنها صدت هجوما للقوات الحكومية في مدينة لودر عاصمة محافظة أبين وأجبرتها على التراجع، بينما دعت السعودية طرفي اتفاق الرياض إلى ضرورة الاستجابة العاجلة لما تم التوافق عليه، في لقاءات أخيرة جمعت الطرفين في العاصمة السعودية الرياض.
وفي اليوم التالي، 2 يوليو، قالت وزارة الخارجية السعودية إن القرارات السياسية والعسكرية الأخيرة التي أعلنها المجلس الانتقالي وتصعيده سياسيا وعسكريا لا تنسجم مع اتفاق الرياض الموقع بين المجلس والحكومة اليمنية برعاية سعودية.
ودعت الخارجية السعودية طرفي اتفاق الرياض للاستجابة العاجلة لما تم التوافق عليه، ونبذ الخلافات والعمل بالآلية المتوافق عليها، وتغليب المصلحة العامة لاستكمال تنفيذ بقية بنود الاتفاق لتوحيد الصف لمختلف أطياف الشعب اليمني، ودعم جهود التوصل إلى حل سياسي شامل ينهي الأزمة في اليمن.
بدورها، رحبت الخارجية اليمنية بدعوة السعودية لوقف التصعيد في جنوب البلاد، وقال وزير الخارجية اليمني أحمد عوض بن مبارك -في تغريدة على تويتر- إن الحكومة ترحب بالبيان الصادر عن الخارجية السعودية والمتضمن رسائل واضحة لاحترام الالتزامات المتوافق عليها.
في غضون ذلك، سيطرت القوات الحكومية على إدارة الأمن في مدينة لودر بأبين بعد مواجهات مع مسلحين من مليشيات الانتقالي في المدينة التي شهدت مواجهات متقطعة استمرت عدة أيام بعد رفض مدير أمن مديرية لودر تسليم مهامه لقائد جديد عينته الداخلية اليمنية.
وأعلنت قيادة أمن محافظة أبين، في وقت متأخر من مساء الجمعة (3 يوليو)، سيطرتها الكاملة على مديرية لودر بعد مواجهات مع المتمردين التابعين لما يسمى بالمجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتيا، وحذرت قيادة أمن أبين كل "من تسوّل له نفس العبث بالأمن والاستقرار، كون يد العدالة ستطاله".
وبعد خسارة "الانتقالي" مواقع عسكرية في أبين، اتهم الحكومة بخرق اتفاق الرياض، رغم أنه هو من بدأ بالتصعيد، وقال في بيان له نشره بموقعه على الإنترنت، إن "قرارات الحكومة السياسية وأحداث أبين وما تشهده محافظات الجنوب تشكل انتهاكا صارخا لا ينسجم مع آلية إيقاف التصعيد ضمن اتفاق الرياض".
وبعد خسارته في أبين، هدد "الانتقالي" الحكومة الشرعية قائلا -في بيان صادر عن اجتماع رئيس المجلس عيدروس الزبيدي بالقيادات العسكرية والأمنية التابعة للانتقالي في العاصمة المؤقتة عدن- إن قواته "لن تقف مكتوفة الأيدي تجاه العبث بأمن محافظة أبين والجنوب بشكل عام"، حسب تعبيره.
وأطلق "الانتقالي" تهديداته تلك بعد أن دفع بتعزيزات من مليشياته إلى مدينة زنجبار عاصمة محافظة أبين، في محاولة منه لتفجير الوضع عسكريا، وتتضمن تلك التعزيزات عشرات العربات العسكرية ونحو 20 مدرعة وسبع دبابات إلى محيط ملعب الوحدة بأبين، واستقر جزء منها بداخل الملعب وتقدم الجزء الآخر صوب منطقة الشيخ سالم.
إدانات دولية لتصعيد الانتقالي
وخلال الأيام الماضية، توالت إدانات دولية لتصعيد المجلس الانتقالي في جنوب اليمن، مما أربك "الانتقالي" وحليفته دولة الإمارات، ففي يوم الجمعة الماضي، أعربت كلٌّ من بريطانيا وفرنسا عن قلقهما البالغ إزاء التصعيد الأخير في محافظات جنوب اليمن، ودعتا طرفي اتفاق الرياض إلى وقف القرارات الاستفزازية والعودة إلى المفاوضات التي تقودها السعودية لتنفيذ الاتفاق بشكل كامل.
بدورها، دعت القائمة بأعمال السفير الأمريكي لدى اليمن، كاثي ويستلي، إلى وقف الخطاب التصعيدي والإجراءات في محافظات جنوب اليمن.
وقالت في تغريدة على حساب السفارة على تويتر: "نحثّ الأطراف على العودة إلى الحوار الذي يركز على تنفيذ اتفاق الرياض ووضع مصلحة الشعب اليمني في المقام الأول".
وأضافت: "أولئك الذين يقوضون أمن اليمن واستقراره ووحدته يخاطرون بالتعرض للرد الدولي ومضاعفة المعاناة في اليمن وإطالة أمدها".
وردا على الإدانات الدولية لتصعيد المجلس الانتقالي في جنوب اليمن، قال "الانتقالي"، الاثنين الماضي، إن "ما شهده الجنوب خلال الأيام الماضية يندرج ضمن حرية التعبير للمواطنين من أجل الدفاع عن مصالحهم ومستقبلهم السياسي الذي تقرّه التشريعات الدولية، وللمطالبة بتنفيذ اتفاق الرياض"، لكنه لم يوضح ما هو الرابط بين حرية التعبير والتصعيد العسكري.
وعبّر "الانتقالي" -في الاجتماع الدوري لهيئته الرئاسية برئاسة عيدروس الزُبيدي"- أعن أسفه "لبعض التصريحات الصادرة من الخارج والتي حملت الأمور أكثر مما تتحمل، وأوصلت رسائل خاطئة إلى بقية الأطراف لاستغلالها"، حسب وصفه.
التصعيد الأخير ودلالاته
يأتي التصعيد العسكري الأخير لما يسمى المجلس الانتقالي الجنوبي في عدن وأبين، بعد أن حصد مكاسب سياسية وعسكرية منحها له اتفاق الرياض لم يكن يحلم بها، وتجنيد مزيد من المقاتلين في مليشياته، وحصوله على أسلحة إضافية من دولة الإمارات أدخل معظمها سرا، وتعزيز دولة الإمارات تواجدها العسكري في جزيرتي سقطرى وميون من خلال إنشاء مزيد من القواعد العسكرية المشبوهة والبعيدة عن جبهات الحرب مع الحوثيين.
بدأ التصعيد بعد عودة رئيس المجلس، عيدروس الزبيدي، من زيارة إلى دولة الإمارات، والبدء في عقد اجتماعات وإصدار قرارات بتعيينات في وسائل إعلامية حكومية بعد الاستيلاء عليها، وتعيينات في قوات الأمن، وغير ذلك من وسائل التصعيد التي كشفت عن نتائج زيارة الزبيدي المشبوهة إلى دولة الإمارات وما هي التعليمات والخطط التي تلقاها هناك للتصعيد.
وتزامن كل ذلك مع خوض القوات الحكومية لمعركة هي الأعنف مع مليشيات الحوثيين على أسوار محافظة مأرب، وهي معركة تعيق تقدم الحوثيين نحو عمق المحافظات الجنوبية، وليس بمقدور مليشيات "الانتقالي" لوحدها مواجهة مليشيات الحوثيين في حال تقدمت جنوبا، خصوصا أن المساحات الشاسعة لبعض المحافظات الجنوبية ستوفر للحوثيين خيارات كثيرة للتقدم والحركة وتوهان مليشيات "الانتقالي" في تلك المساحات الشاسعة بسبب قلة عددها مقارنة بالكثافة البشرية لمليشيات الحوثيين، لكن رهانات المجلس الانتقالي تذهب بعيدا عن النتيجة التي يأملونها من تلك المعركة، إذا قال الزبيدي، في تصريحات سابقة لصحيفة بريطانية، إن سيطرة الحوثيين على مأرب تعني إنهاء السلطة الشرعية والحوار مع الحوثيين لتحقيق الانفصال.
التخلص من اتفاق الرياض
وبعد أن بدأ ما يسمى المجلس الانتقالي تصعيده الأخير ضد السلطة اليمنية الشرعية، سارعت السعودية إلى دعوة الطرفين، الحكومة الشرعية والمجلس الانتقالي، لاستئناف مشاورات تنفيذ اتفاق الرياض الموقع بينهما في نوفمبر 2019، إلا أن ذلك لا يعكس جدية السعودية أو رغبتها في استكمال بنود الاتفاق، لأن الاتفاق لم يكن الهدف منه وضع حل جذري للأزمة في جنوب اليمن، وإنما الهدف منه شرعنة انقلاب ما يسمى المجلس الانتقالي على الحكومة الشرعية، ومنح تحركاته الانفصالية غطاء شرعيا، وإنقاذه من أي هزيمة عسكرية في حال دخوله في معركة فاصلة مع القوات الحكومية، وانتهاج خطوات تدريجية وبطيئة لتحقيق انفصال جنوب اليمن.
ويبدو من خلال مسار الأحداث أن السعودية والإمارات تعملان على تفكيك اتفاق الرياض والتخلص منه نهائيا، وتعمل الدولتان على أن تتجاوزه الأحداث، حتى تصبح الأوضاع أسوأ بكثير مما كانت عليه قبل الاتفاق، وليس مستبعدا أن الدولتين تخططان حتى يأتي يوم يكون فيه المجلس الانتقالي هو السلطة الشرعية (في جنوب اليمن)، وتتحول السلطة الشرعية إلى طرف انقلابي، خصوصا مع استمرار تساهل السلطة الشرعية وتعويلها على قشة اتفاق الرياض لترويض الانتقالي، والتصديق بأن السعودية جادة في تنفيذ الاتفاق، مع أنها لو كانت جادة لاتخذت العديد من الوسائل لإجبار المجلس الانتقالي على تنفيذ بنوده كافة.