[ عائلة يمنية تلجأ إلى كهف غربي صنعاء بسبب الفقر ونقص السكن (محمد الباشا/ فرانس برس) ]
يعيش الأربعيني هلال العزعزي، الذي يعمل في مجال الخياطة، في حالة ارتباك منذ بضعة أسابيع، بسبب البحث عن مسكن اّخر بعدما أبلغه مالك العقار في منطقة مذبح جنوب غرب العاصمة صنعاء بقرار رفع الإيجار مع مطلع العام من 35 ألف ريال (الدولار يعادل 670 ريالاً) إلى 45 ألفاً، بزيادة تبلغ نسبتها 28.5%.
العزعزي الذي كان موظفاً في إحدى الدوائر الحكومية قبل توقف الرواتب نهاية عام 2016 وتحوله للعمل كخياط، يقول لـ"العربي الجديد"، إنه بحث طويلاً ولم يجد أي مسكن اّخر، الأمر الذي أعاده مرة أخرى للطلب من المؤجر التراجع عن زيادة قيمة الإيجار.
يؤكد العزعزي أن المبلغ الذي يريد المؤجر إضافته مبالغٌ فيه للغاية في منطقة تعد نوعا ما شبه عشوائية، إلى جانب أن العقار الذي يستأجره مكون فقط من غرفتين وصالة صغيرة، ورغم ذلك رفض المالك طلبه وأعطاه مهلة إضافية إلى يناير/كانون الثاني الجاري.
وتعاني المدن الرئيسية في اليمن مثل صنعاء وعدن وتعز وحضرموت ومأرب وإب من أزمة مساكن حادة، نظراً للاكتظاظ السكاني الذي تعيشه، خصوصاً أن بعضها استقبلت مئات الآلاف من النازحين من مناطق شهدت معارك شديدة خلال السنوات الماضية من الحرب الدائرة في اليمن منذ مطلع عام 2015.
ويمثل آخر شهرين من كل عام فترة مقلقة تؤرق اليمنيين الذين لا يمتلكون مساكن خاصة ويعتمدون على استئجار العقارات بمبالغ أصبحت قياسية بسبب الحرب، إذ يبدأ ملاك المساكن والمحال التجارية بإبلاغ المستأجرين عزمهم رفع قيمة الإيجارات مع بداية العام الجديد، في حين يتعمد بعضهم إضافة مبلغ كبير يزيد على 10 آلاف ريال لدفع المستأجرين لديهم لإخلاء العقار واستغلال أزمة المساكن وارتفاع الطلب عليها وجلب مستأجر اَخر قد يكون مضطرا للموافقة على أي مبلغ لاستئجار المسكن. وأظهرت بيانات محلية أن أكثر من 80% من المواطنين مدينون لمؤجري المساكن وأصحاب المحلات.
سليم الأغبر، الذي نزح من محافظة تعز في عام 2017، إلى محافظة مأرب وسط اليمن، يشكو كذلك من ارتفاع الإيجارات بشكل كبير، وهو ما دفعه، وفق حديثه لـ"العربي الجديد"، إلى العودة إلى المخيم مع أسرته للإقامة، رغم قسوة الحياة في المخيمات وافتقادها لأبسط الخدمات مثل المياه، بعد أن كان قد تركه للإقامة في منزل استأجره في إحدى مناطق مدينة مأرب.
واستقبلت مأرب، خلال الأعوام القليلة الماضية، أعدادا كبيرة من النازحين من مختلف المناطق اليمنية، ساهمت في خلق أزمة عقارية حادة، بينما يغيب أي دور للسلطات المحلية للتصدي لاستغلال ملاك العقارات، مع وصول إيجار عقار متوسط مكون من ثلاث غرف إلى ما يقارب 150 ألف ريال، وفق مستأجرين.
ولتخفيف معاناة الأسر الفقيرة في مأرب من معاناة انعدام المساكن ومشكلة الإيجارات، قامت السلطات في المحافظة بتنفيذ مشروع عقاري لتسكين نحو 100 أسرة من الفئات الفقيرة في مساكن بديلة، مع توفير بعض الخدمات الأساسية لهذه المساكن من كهرباء وماء وصرف صحي.
وتقدّر الأمم المتحدة نسبة السكان الذين اضطروا إلى النزوح من منازلهم في اليمن بنحو 16%، أي حوالي 5 ملايين شخص منذ عام 2015، في حين يعيش قرابة 74% من الأسر النازحة في بيوت مؤجرة خارج المواقع المضيفة. وتنافس مدينة عدن جنوب اليمن، مأرب في أزمة العقارات وارتفاع الإيجارات إلى مستويات تفوق قدرات المواطنين الباحثين عن مساكن، في ظل تراجع الدخل وتردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية.
وتُعد المساكن وإيجاراتها الباهظة في طليعة الأزمات التي تنهك الأسر اليمنية. وارتفعت الأصوات مؤخراً التي تطالب السلطات الرسمية المعنية بضبط الفوضى الراهنة في السوق العقارية، ووضع حد لجشع المؤجرين وملاك العقارات وحماية المستأجرين من الانفلات الحاصل في السوق، والذين تؤرقهم إيجارات المساكن، الأمر الذي يدفع الكثير من الأسر إلى استقطاع جزء من الميزانيات المخصصة للغذاء من أجل توفير بدل الإيجارات وتجنب الطرد من السكن.
وبحسب دراسات حديثة، فإن كثيراً من الأسر اضطرت إلى زيادة نسب اعتمادها على "الاستراتيجيات السلبية" للتأقلم مع تداعيات الأزمة الاقتصادية ولمواجهة نقص الموارد المالية، أهمها العمل على استهلاك الأغذية الأقل تفضيلاً بنسبة تزيد على 50%، يليها تقليص حجم الوجبة الغذائية، في حين تركزت توجهات كثير من الأسر، خصوصاً في مناطق شمال اليمن، إلى اتباع استراتيجية تقليص عدد الوجبات.
وفي ما يتعلق باستراتيجيات التأقلم ذات العلاقة بسبل المعيشة، فإن تقديرات ترجح أن 26.5% من الأسر خفضت الإنفاق على التعليم والصحة وقامت بسحب أولادها من المدارس، فيما وجد أن كثيراً من الأسر، بنسبة 50%، تشتري الغذاء بالائتمان، في حين اضطر 16.5% إلى البيع من أثاث المنزل لتوفير السيولة وشراء متطلباتهم المعيشية الضرورية.
وكان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، قد حذر في بيان في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي من أن اليمن "يواجه الآن خطرا وشيكا لأسوأ مجاعة يشهدها العالم منذ عقود".
ويقول الخبير في السوق العقارية محمود هاشم لـ"العربي الجديد" إن السوق العقارية أضحت تخضع بشكل مفجع لمستويات العرض والطلب، في ظل كثافة سكانية مرتفعة تزيد من مستوى الطلب في بعض المناطق يقابله عرض محدود، الأمر الذي يساهم في ارتفاع حدة أزمة المساكن نهاية كل عام.
ويشير لـ"العربي الجديد"، إلى أن الأزمة لا تتوقف عند حد ارتفاع الإيجارات، بل هناك أزمات تشريعية وقانونية وقضايا واسعة تكتظ بها المحاكم، أطرافها ملاك عقارات وأراض ومستأجرين، بما يعكس عمق هذه القضية التي باتت تشكل مصدر قلق للجميع في اليمن.
وفي ظل ارتفاع الطلب على السكن في بعض المناطق دون غيرها، يشير خبراء اقتصاد إلى ما أفرزته الحرب والسوق السوداء في القطاع العقاري، بخلاف ما ظهر في قطاعات الوقود والكهرباء والسلع الغذائية، من حركة أموال ضخمة تبحث عن تسييل في الأسواق، الأمر الذي أدى إلى تغيير موازين القوى في السوق العقارية ودفعت الإيجارات إلى الارتفاع المضاعف إلى مستويات قياسية، مصحوبة بنمو الطلب على المساكن وازدهار حركة العقارات والأراضي.
وتستقطب تجارة الأراضي المزدهرة في معظم المدن اليمنية الرئيسية أموالا ضخمة مجهولة المصدر تستثمر في شراء الأراضي وبناء العقارات والمساكن، كما يحدث في صنعاء والتي ازدهرت فيها تجارة الأراضي بصورة واسعة، مع وصول سعر "اللبنة" الواحدة (تساوي 44.4 مترا من الأرض) في مناطق صنعاء إلى نحو 40 مليون ريال، بينما يصل سعرها في الأطراف إلى نحو 18 مليون ريال للبنة الواحدة، فيما تبرز في عدن ظاهرة البسط على الأراضي والعقارات الخاصة والبناء العشوائي في أغلب مناطقها.