لا ينبغي للكاتبِ والأديب أن يدعي الحياد في قضايا أمته الكبرى
خالد بريه في حوار حول كتابه "حائط المبكى": كانَ لزاماً أن أصنعَ تاريخاً بروحٍ أدبية
- حاوره: صلاح الواسعي الخميس, 11 مارس, 2021 - 05:25 مساءً
خالد بريه في حوار حول كتابه

[ خالد بريه ]

كتاب "حائط المبكى" للأديب اليمني خالد بريه واحد من أهم الكتب اليمنية وأكثرها إبداعاً. يتناول الكتاب آلام وأوجاع عاشها الكاتب والتي هي أوجاع وآلام كل إنسان يمني، فشخصية اليمني قد ضمنت بين سطور هذا الكتاب بكل همومها وصراعاتها النفسية وتجاربها الحياتية.

 

يتطرق الكتاب أيضا لمواضيع وقضايا تتعلق بالقراءة والكتابة والثقافة مهمة لكل مثقف وقارئ، عبر عنها المؤلف بأسلوب أدبي رشيق غاية بالدهشة والروعة والجمال، وبأسلوب لغوي رصين.

 

في حوار أجراه "الموقع بوست" مع بريه يجيب المؤلف عن مجموعة من الأسئلة التي تتمحور حول الكتاب وموضوعاته.

 

نص الحوار:

 

* حائط المبكى من العنوان نحيب وبكائيات ونستالوجيا، هل يمكننا القول إن الكتاب ينتمي "لأدب المهجر" وإن الظروف التي عاشها جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة هي ذاتها الظروف التي أحاطت بالكاتب خالد بريه في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين؟

 

** أي كتابٍ يظهر إلى الوجودِ في وقتٍ ما، يقتسمُ ملامح الزَّمان الذي ينتمي إليه، لو لم أكن ابن بلدٍ مزقته الحروب، واكتوى بنيرانِ الألم والأسى، لما كانت كتبي الأولى أخَذَت طابع الحزن، لقد حاولَت أن تجسِّد الألم الذي يعيشه الملايين من أبناءِ الوطن في الداخل، ولهذا، جعلتُ من نفسي متحدِّثًا عن الإنسان الذي أضعفته الحروب، وأرهقه الغياب لكلِّ معاني الحياة، إذ ليسَ من المعقول أن أشيحَ بوجهي عن كلِّ ما يعانيه الإنسان في تلكَ البقعةِ المنسية، كانَ لزامًا أن أصنعَ تاريخًا بروحٍ أدبية تجسد المأساة التي كنتُ شاهدًا عليها.

 

* في مقال الإبداع والألم. قلت: "لكنني أعتقد أن الآلام هي الباعث على إخراج المكنون". ثمة من ينظر للعلاقة بين الإبداع والألم على أنها عكسية، إذ إن الإبداع يحتاج إلى حالة من الاستقرار النفسي والهدوء والاتزان العاطفي وخاصة إذا تعلق الأمر بالآلام التي تسببها الظروف المادية للكاتب أو المبدع!

 

** تستطيع أن تقف على ضعف قولٍ كهذا، من خلال النَّظر إلى حياةِ كبار الأدباء في الشَّرق والغرب، والظروف القاهرة التي أحاطت بهم، والآلام التي التصقت بأرواحهم، وانعكاس الألم على قدرتهم الإبداعية، الأمر الذي دفعهم لإخراجِ المعاناة وتمثلاتها من خلالِ القلم، والأديب الذي لم يعش حياةً تغصُّ بالألمِ والحزن، تجده يبحثُ عنها عندَ الآخر، الآخر الذي وقعَ فريسةً للأسى، فيعمدُ إلى تلبُّس تلك الحالة، والحديث عنها، لأنه يدرك جيدًا أنَّ الألم ملتصقٌ بالإبداع، وأنَّ الأحزان مطهَرةٌ للقلم، مرضاةٌ للمتلقي، لأنها تتحدث عن مكنونهم وأوجاعهم التي يعجز أحدهم أن يترجمها من عمقِ المعنى، ليأتي الأديب مترجمًا تلكَ الآلام برشاقة، تحيلُ الألمَ إلى إبداع، لنكتشف أنَّ الألم هو الباعث الحقيقي على الخلود الأدبي الذي يأبى أن ينفكَّ عن صاحبه! ولعل ما قاله الأديب الروسي الشهير دوستويفسكي عن علاقة الأفكار بالألم تؤيد ما أذهبُ إليه، وذلك في قوله: "الأفكار تنشأُ من الألم، والألم ينادي الأفكار، فإذا كان الإنسان سعيدًا، هذا يعني أنه لم يفكِّر قط".

 

* "حائط المبكى" ما دلالة الرمزية بواقع الإنسان اليمني، هل تريد القول إن حياة الإنسان في اليمن تحولت في كل جوانبها لحائط مبكى رهيب ومتسع؟

 

** في الفترة التي كتبتُ فيها الكتاب، كانَ كلّ شيءٍ يحمل رائحةَ الموت، والدَّمار، كنتُ كلما دلفتُ إلى حائطي في الفيسبوك، لا أقرأ إلا بكاءً ممضًّا على الرَّاحلين، وخيمة العزاءِ منصوبة في منتصفِ صفحتي. ومن هنا نشأت لدي فكرةُ الاسم، لقد تحول حائطي إلى مبكى لمن أوجعتهم الحياة فآثروا الرحيل. ثم إذا فررتُ من الواقعِ الافتراضي إلى عالمِ الشَّهادة ممثلًا بالواقعِ الحقيقي دونَ التخفي خلف صفحةٍ زرقاء، أجد النَّعي مستمرًا، كأنَّ الموت أقسمَ ألَّا يبرح المكان حتى يترك جمرة متقدة في القلبِ تأبى الانطفاء، فخُيِّل إليَّ حينها أنَّ الكون برمته تحوَّلَ إلى حائطِ مبكى، والباكونَ حوله كُثُر حدَّ الخيبات التي منينا بها. وقد أَبَنْتُ عن ذلكَ بقولي: "إنَّ الواقعَ حائطُ مبكى، والفضاء الواسع الذي نفرُّ إليه، تحوَّلَ لأكبرِ حائطٍ من حوائطِ المبكى، ولو ألفيتَ نظرةً لرأيتَ الحوائط تحملُ الموت، والنعي، والرحيل، والحروب القذرة، وبتنا بينَ الواقعِ والخيال نستلهمُ البقاءَ والحضور من حوائط المبكى التي نجدُ فيها الحضورَ والبقاء!".

 

* "العتمة تتسع" ملحمة شعرية جميلة في ثنايا الكتاب تتشح بالوجع والنظرة المجسدة للواقع بأوجاعه، برأيك ما سر هذه العتمة التي غرق الوطن فيها؟ ولماذا لم تأتِ الانفراجة بعد؟

 

** قبل أن أجيبَ بشكلٍ مباشر عن هذا السؤال، يجدرُ بي أن أخبركَ أنَّ هذا النَّص كتبته وأنا في صالةِ الانتظار، بالقربِ من الرواق المفضي إلى غرفةِ العملياتِ التي ينامُ فيها والدي. في تلكَ اللحظات رأيتُ عبر هاتفي حشودًا من البشر تحتفي بالصُّمودِ بالغرقِ العظيم الذي أصاب الوطن، فكان هذا النَّص الذي بينَ يديك.

 

 

أما عن سرِّ العتمة، فهي تتسعُ وما زالت تأخذُ في الاتساع، لأننا حتى اللحظة لم نفكِّر بطريقةٍ واقعيةٍ تحدُّ من اتساعها، وما زلنا ننظر إلى الوطن من منظور الأثر العكسي على الجانب الشخصي، دون النظر إلى الوطن الذي نتشدق بالحدث عنه كل يوم،  ودونَ أن نفكِّر بحسمٍ لإيقافِ هذا الانحدار الذي وصلنا إليه، وعندما تنتهي السَّكرة وتأتي الفكرة، سنكتشفُ أنَّ إيقاف العتمة كان أمرًا لا مفرَّ منه، وآمل ألَّا تتأخر طويلًا هذه الاستفاقة، للآثارِ الوخيمة التي تتركها العتمة وراءها.

 

* توقفت عند حسن الزيات كثيرًا وعند علي أحمد باكثير، لماذا هؤلاء بالذات؟ ما الفرادة التي تميزهم عن سائر الأدباء العرب؟

 

** الزَّيات صاحبُ فضلٍ ومنَّة على الأدباءِ والأدب وشُداته، بمعنى أنَّ الزيات عبر مِنْبَرِه الشَّهير "مجلة الرسالة"، صنعَ للأدباءِ دولة ينتسبونَ إليها، وكعبة يطوفونَ حولها، ونافذة ينظر منها شداة الأدبِ إلى حقيقةِ الأدب، فكان الحديث عنه عرفانًا. إضافة إلى أنَّ الزيات رائدٌ من روَّادِ الأدب، وعملاقٌ من عمالقةِ الكلمةِ والحرفِ، وعَلَمٌ شامخٌ مِنْ أعلامِ البيانِ، لم يحظَ بما حظي به غيره من الشُّهرة والمكانة والاعتناء والذكر وهو يبز أقرانه ويفوقهم في أسلوبه المشرق.

 

وأتذكر جيدًا أني زرتُ العديد من مكتباتِ القاهرة، أسأل عن الزَّيات وكتبه، فوجدتني أبحثُ عن أديبٍ مجهول بين قومه، ناهيكَ عن الآخرين، وهذا ما حزَّ في نفسي، وجعلني أكثر إصرارًا للتعريفِ بهذا العَلَم الكبير للقرَّاء ومحبي الأدب. وقل مثل ذلك في أديبِ اليمن الكبير علي أحمد باكثير، الذي منحَ أمتَهُ فرائدَ الأدبِ والإبداعِ، وقُوبِلَ بالجحودِ والتجاهلِ والنسيانِ، وأنا في طورِ كتابةٍ موسعة عنه، تليقُ بمكانته الأدبية.

 

* تذكر في أكثر من معرض علاقتك الحميمة بالكتب، هل لنا أن نتعرف على تجربتك مع الكتب أصدقاء العزلة الأكثر دفئًا وحميمية؟

 

** الحديث عن الكتبِ يطول، وهو بحاجةٍ إلى حديثٍ منفرد، وقد ذكرتُ في كتاباتٍ متفرقة شيئًا عن ذلك، وإني أحمدُ الله أني اهتديتُ مبكرًا إلى عالمِ الكتاب والقراءة، لقد كان توفيقًا إلهيًّا عظيمًا، وحَدَثًا أخذَ حياتي إلى منعرجاتٍ بعيدة ما كنتُ لأراها وأصل إليها لولا الكتاب. وما زلتُ أكرر دومًا أَنَّ مسيرة أيِّ إنسانٍ في هذهِ الحياةِ لا بدَّ أَنْ تبدأَ مِنْ غلافِ كتاب، وأحسبني كذلك.

 

ويكفيه مكانةً في نفسي أنه ساعدني للحفاظِ على اتزاني في وقتٍ لا اتزانَ فيه، وأسهمَ في مدِّ يد الحياة في لحظاتٍ حرجة مررتُ بها، كنتُ أدفنُ رأسي في صفحاته، فيأخذني إلى عالمٍ آخر لا علاقةَ له بالحال التي مررنا بها لحظةَ شقاء. الأمر الأهم من كلِّ ذلك، أني وجدتُ في الكتاب سلوىٰ عن الفقدِ وعزاء عن الرحيل، ولهذا ختمت كتابي حائط بالحديث عن الكتب، في إشارة إلى الدور الذي لعبته في اجتياز تلك الأيام العصيبة.

 

* تقول: "كان قرار العزلة أصح طريق لتعميق الحياة وتنويعها" كيف يمكن للعزلة أن تكون أصح طريق أم تقصد بالنسبة لك ككاتب وأديب فقط؟

 

** الكاتبُ يخرجُ من رحمِ العزلةِ والألم، وأنا هنا أتحدثُ عن نفسي، لأنَّ العزلة تناسبني كثيرًا، لأنني أنظر إليها باعتبارها نزهة للروح، وتخلص من نمطيةِ الحياة، واستعادة لزمامِ أمور مبعثرة، وهروب من ضجيجِ الحياةِ. وتعجبني في هذا المقام عبارة اشتهرت عن آلبيرتو مانغويل، في قوله: "أعطتني القراءة عذرًا مقبولًا لعزلتي بل، ربما أعطت مغزى لتلك العزلة المفروضة عليّ". وقل مثل ذلك عن الكتابةِ، إذ هما وجهانِ لإبداعٍ واحد، فالعزلة امتناعٌ عن رؤيةِ البعض، ولقاءٌ بآخرين.

 

وفي ظلِّ هذه السيولة التي نعاني منها على كلِّ المستويات، بات لزامًا للكاتبِ وصاحب الهمِّ المعرفي من عزلةٍ إجبارية ما بينَ حينٍ وآخر، للتخلصِ من أدرانِ الضَّجيج والشتات المعرفي الرهيب الذي نعيشُ فيه. ولا يعني هذا أني أدعو إلى اعتزالِ الحياة، فهذا مما لا يقوله عاقل.

 

* في كل شخصياتك التي ذكرتها في الكتاب أو كنيت عنها بضمير الغائب أو المتكلم "أنا"، هل كنت تسرد أحداثًا وقعت في حياتك أم هي موضوعات وعبر من خيالك كتبتها للحياة وجدت أنه من المناسب لك التعبير عنها بلغة مستخدمًا ضمير المتكلم "أنا" وضمائر الغياب؟

 

** هذا أحد أكثر الأسئلة التي وجهت إليَّ من قبلِ القرَّاء، وأنا لا أستغربُ من هذا السؤال، لأنَّ أغلب الكتاب قد كُتب بضمير المتكلم، وفي الوقت ذاته أستغرب السؤال: لماذا؟ لأنَّ المآلَ واحد، بمعنى: إن كنتُ أنا صاحبَ القضيةِ والكاتب في آنٍ واحد، أو كنتُ الكاتب المتلبِّس بقضايا الآخرين، لأكونَ لسانهم في الثرثرة عن الوجعِ الذي تضيق به صدورهم، فالمحصلة النهائية في الأثر الذي يتركه النَّص المسطور بغضِّ النَّظر عن المتحدثِ عنه.

 

ومع ذلك أَبَنْتُ عن جواب هذا التساؤل في مفتتحِ الكتاب، بقولي: إِذا رَأيتَ الحديثَ مُصَدَّرًا بالأنا، فأنتَ المَعنِي بذلك، فأنا وأنتَ أركانُ المسرَحِ الفسيح الذي تُقامُ فيه فصول الحكَايةِ! فنحنُ قصَّة مكتملة، تَأْخذُ أشكَالًا مُختَلفَة، تطوَّعَ القلمُ بتدوينِهَا، لِيكُونَ لسَان الحالِ الذِي يَحكِي قصة الوَجَعِ الدائم.

 

* عندما قرأت هذه الجملة: "كان حائطها مزهرًا كمدينة الأمنيات التي نتسللُ إليها من خلفِ سياج الحديد أو إبحارًا في قواربِ الموت"، وكأني بهذه الجملة أراك تريد لفت النظر للإنسان اليمني الذي يهربُ من مدن الحرب يجتاز السياجات الحديدية بين الدول ويموت في وسط البحار بحثًا عن مدن الأمنيات، مدن الأمان واللجوء!

 

** نعم، كنتُ أعني ذلكَ تمامًا، وقد كتبتُ عنها قصَّة في كتابي "اغتيال الرَّبيع"، بعنوان "غريبٌ في أرضِ الوطن"، تعالج هذه القضية التي تحوي في جعبتها كومة من الوجع، وشيئًا لا يوصف من الذُّل، والخوف، والمجهول، واللاإنسانية.

 

* ما سبب غياب الكتاب اليمني في معارض الكتاب الدولية؟ هل تعتقد أن هذا الغياب هو السبب الجوهري في عدم انتشار الكتاب اليمني دوليًّا؟

 

** غيابُ الكتابِ اليمني ناشئٌ من غيابِ الكاتبِ اليمني، وغيابُ الكاتب يعود إلى أسبابٍ كثيرة، أهمها: شبه انعدام أو غياب البيئة التي تعينُ على الارتفاعِ بالمبدع، والتعريف به، وإظهار أدبه وإخراجه من دائرةِ المحلية إلى فضاءِ العالمية كما يفعل غيرنا، وغيابُ المبدعِ اليمني في أغلبِ الحقول ليسَ أمرًا جديدًا، ولكنه أمرٌ قائم للأسف منذُ القِدم، فقد ألمحَ إلى هذا الشوكاني في البدر الطالع، وتحدث عن ظاهرة وجود الرغبة الوافرة في دفنِ محاسنِ الأكابر، ولو تأملنا لوجدنا أنَّ أغلب علماء القُطْر اليماني، يعود سبب شهرتهم إلى عاملٍ خارجيٍّ أسهمَ في التَّعريف بهم، ومن عُرفَ منهم بين الأقطار عدد لا يكاد يذكر مقارنة بمن لم يعرف.

 

أضف إلى ذلك أنَّ المشهد الثقافي اليمني في حالةٍ غير مرضية، ما زلنا نعاني من شللية المثقف إن جاز قول ذلك، وعدم الاعتراف بالآخر، لأنهم لا ينظرون إلى الإبداعِ مجردًا، وإنما ينظرون إلى البيئة التي خرجَ منها المبدع، فإن كانت توافق توجهاتهم جعلوا منه فريدَ زمنه، وإلا أشاحوا عنه، وأمطروه بحجارةِ النِّسيان والتهميش!

 

* هناك قضية أن معظم المؤلفين اليمنيين يعيشون خارج اليمن وهم ينشرون كتبهم في دور نشر خارجية، فلماذا لا ينشرون في دور النشر اليمنية كون اليمني هو المعني بالثقافة والمطالعة؟

 

** بخصوص الدُّور اليمنية فلا يوجد دور نشر حقيقية في اليمن، وإذا ما وجدت بعضُ المكتبات التي تطبع الكتب بشكلٍ رديء، تجدها تفتقدُ للتَّرقيم الدولي «ISBN»، الذي يقابله في العربية اسم «ردمك» وهو اختصار لـ«رقم دولي معياري للكتاب». وبهذا يكونُ الكتاب كطفلٍ لا يحملُ شهادة ميلادٍ تعترف بوجوده في هذه الحياة، ناهيك عن أسبابٍ أخرى عديدة تدفعُ بالكاتبِ للنَّشرِ في دور نشرٍ عربية.

 

* قلت إنَّ الأديب هو الذي يؤثر ويتأثر بالناس وإذا لم يؤثر بالآخرين كان أديبًا مزيفًا. هل تعتقد أن الأديب يجب أن يتفاعل مع كل القضايا ذات الطابع الاجتماعي والسياسي ويكون له موقف واضح منها؟ وما رأيك بحياديةِ الكاتب؟

 

** الأديب إن لم يؤثر ويتأثر فليس بأديبٍ حقيقي، وهذا أمرٌ بدهي. الأديب ابتداءً يجبُ أن يسخِّر الإبداع في مناصرةِ الإنسان وقضاياه، والحديث عن همومه، و أشواقه، وأمنياته، وأحلامه المتعثرة، وخيباته الناشئة من معاركه الكبرى في الحياة. باعتقادي لا يوجد أسمى مِنْ دفعِ الآلامِ عن إنسانٍ لا يستطيعُ التعبيرَ عن ألمه.

 

وإن لم يمتزج الكاتب بحيواتِ الآخرين، لن ينتجَ أدبًا يستحقُّ الخلود، لأنَّ حرارة الحرف ستغيبُ حتمًا، لغيابه عن مسرحِ الحياة الكبير الذي يضفي على النَّص دهشة المعنى. أما انغماسه في السِّياسة والحديث عنها، فهذا أمرٌ لا يقال على عمومه، فلكلِّ أديب وضعه الخاص الذي ينطلقُ منه، فلستُ أرى إلزام الأديب في أن ينخرطَ في الحديث عن السياسة ولا أن يمتنع عنها، أما سؤالك عن الحياد، فهو كذبةٌ كبرى يتعذَّر تحققه، لأنَّ الحياد إن وُجِدَ -جدلًا- فهو بحدِّ ذاته موقفٌ يخرجه من دائرة ومسمى الحياد، ولا ينبغي للكاتبِ والأديب أن يدعي الحياد في قضايا أمته الكبرى.

 

* لعلك تطرقت للحديث عن الاحتباس الذي يصيب الكاتب وعجزه أحيانًا عن الكتابة، وكأنه كاتب حديث عهد بالقلم، لكنك قلت إنها حالة طبيعية، ونصيحتك: "اترك القلم جانبًا واقرأ في كتاب الكون"، ما لذي تقصده بالقراءة في كتاب الكون على وجه التحديد؟

 

** الفعل الكتابي يعتريه ما يعتري أي فعلٍ آخر، وتسري عليه أحكام الحياة، فمن الطبيعي أن تصحو يومًا، وأنتَ لا قدرة لك على كتابةِ حرفٍ واحد، لغياب الدَّافع، وثقل القلم، وغياب الطبع، وتلاشي الفكرة، وانعدام الشهية -إن صحَّ التعبير- في كتابةِ أيّ شيء، كل هذا أمرٌ طبيعي يعرفه من يجترحونَ الفعل الكتابي الآلي والإبداعي. وفي حالٍ كهذه، أرى أن يتركَ الكاتب القلم، ويهيم ويمعن في قراءةِ الكونِ المنظور، بدهشته، وجماله، وسطوته، والإغراق في التأمل، في محاسنِ الخلقِ وأسراره، والنَّظر وحيدًا في ظلمةِ الليل، وأنت خلوٌ إلا من نفسك، تتأمل الفضاء الممتد، هذه قراءة ملهمة تعود بأثرٍ مدهشٍ على الكاتب، كل هذه الأمور تسمى قراءةً في الكون، تساعدُ في ارتفاع منسوبِ الإيمانِ والإبداع، وهذه قراءة لا يستطيعها إلا من اتسعت لديه حاسةُ الرؤية والجمال، وسبر غور القراءة بمفهومها الشَّامل.

 

* هل يمكن أن تحدثنا عن طقوس الكتابة لديك؟

 

** أما طقوس الكتابة فلستُ كاتبًا مكثرًا ليكونَ لي طقوس، لكني محبٌّ للكتابةِ والأدب، أحاول أن أسهمَ في رفعِ ذائقة القرَّاء، والاعتزاز بالحرفِ العربي، وكتابة شيء يستحقُّ البقاء. أهم طقسٍ لدي إن اعتبرناه طقسًا، أنَّ الفكرة لو اختمرت في رأسي أكتبها ولو كنتُ في أيِّ مكان، ومما أذكره جيدًا أني كتبتُ نصوصًا كثيرة وأنا في الحافلةِ أو في قاعةِ الدرس أو في مصلحةٍ حكومية، لكن غالب كتاباتي تكونُ ليلًا، لأنَّ الليل نهار القرَّاء والأدباء.

 

* قلت إن على الكاتب عدم الالتفات، هل تقصد أن على الكاتب أن يتحرر من الرهاب المجتمعي ويكسر الخوف ويكتب ما يمليه عليه ضميره فقط؟

 

** عدم الالتفات، فأعني به: الابتعاد عن الخوف من ردَّةِ فعل الآخر حِيال المكتوب، والكتابة بناءً على هذا الخوف والترقُّب، تتسببُ في إخمادِ وهج القلم إلى الأبد، لأنَّ القلمَ لا ينقاد لأصحابِ الأيادي المرتعشة. ويحضرني هنا ما قاله ميخائيل نعيمة منذُ زمن: قبل أن تهتموا بما يقوله النَّاس فيكم اهتموا بما يقوله وجدانكم لوجدانكم، أَخلِصُوا لأنفسكم ولأدبكم أولًا، وإذ ذاك فصدوركم لن تضيق بذمٍّ ولن تنتفخ بمدح.

 

* وسط فوضى الحروف وتفاهة المواضيع التي تزدحم بها مواقع التواصل الاجتماعي السوشيال ميديا، كيف يقاوم الأدب الرفيع لينال مكانته ويُوصِل صوته للقارئ فضلًا عن إعادة بناء الذائقة الأدبية للقارئ التي تكاد تغرق في بحر الشعبية والتفاهات؟

 

** هذه من الأمور التي تؤرقُ الكاتب، الجنوح إلى التبسيط، وحمل هم المتلقي الذي يريد شيئًا سريعًا خفيفًا، لا ثقل له، يؤثر في طبيعة النص المكتوب،  ومن استجابَ إلى هذا فقد وقعَ في فخٍّ كبير، على الكاتب أن يرتفع بذائقةِ القارئ لا أن ينزل إلى مستواه، ولا يزال الكاتب يهبط حتى يجد نفسه في القاع، والكاتب هنا يقف على ثغرةٍ عظيمة باعتباره حائط صدٍّ أمام التفاهة السَّائلة التي تغرق كل شيء، فمن المعيب الانجراف وراء هذه الدَّعوات للحصول على حظوةٍ لدى المتابعين، واللهث وراء الشهرة، فيبيع ذائقته بعَرَضٍ من اللايكات والإعجابات الرَّخيصة.

 

* أراك تغرق في الأدب العربي وخاصة عند عمالقة مطلع القرن: الزيات، العقاد، المنفلوطي، حافظ، طه حسين، أحمد أمين، وغيرهم من عمالقة الأدب العربي، مع أن هناك من يقول إن الأدب العربي أو الكتاب العربي لا يأتي بجديد أو مفيد ولا ينبغي أن نقف عنده كثيرًا فهو لا ينتج حياة جديدة وأيضًا متكرر؟ ما هي نظرتك أنت للكتاب العربي إجمالًا بالمقارنة بالكتاب الأجنبي؟

 

** من يصفُ الأدب العربي بالجمود فما وقفَ على حقيقته، وتأثري بالأدباء يأتي من اعتزازي بالأدبِ العربي، لأني أنطلق وأعبر عن أدبٍ وتراثٍ عظيم. ولهذا، تعمدتُ أن أعرِّف القارئ لا سيما من الجيلِ الجديد بهذه الأسماء، وأثرهم في الحركةِ الأدبيةِ والفكرية، ولم أكن عاجزًا عن الحديث في الأدب الغربي أو ما تسميه بالكتاب الأجنبي. ولو كنَّا اليوم أمة ثقيلة في ميزانِ الأمم، لنظروا إلى الأدبِ العربي بعينِ الإكبار، وخلعوا عليه أبهى الأوصاف، لكنه الانحدار الذي يصيبُ الأمم يمتد إلى كلِّ شيء، ومع ذلك فإنني مهتمٌّ بقراءة الأدب الغربي، وقرأت أهم الروايات العالمية التي ارتضاها الناس وجعلوا منها معلقاتٍ أدبية لا يزيدها مضي الأيام إلا توهجًا. والمقارنة في رأيي بين الأدبين لا تستقيم، لأنَّ كل كاتب ينطلق من بيئة مغايرة فمن الطبيعي أن تجد هذا التباين بين الأدبين، والحاذق من جمع بينهما. أما الكتاب الغربي اليوم فقد تجاوز الكتاب العربي بمراحل، والمقارنة بينهما منعدمة، لأننا بحاجة إلى قفزة كبيرة ليصل الكتاب العربي إلى مستوى الكتاب الأجنبي.

 

* ما هي رسالتك للأدباء والكتَّاب من جيلك الذين لا يزالون في بداية طريقهم إلى الأدب والفكر والثقافة؟ بمَ تنصحهم؟

 

** لا أجد وصيةً أجمل من وصيةِ ميخائيل نعيمة التي كتبها لشداةِ الأدب، في قوله: إنَّ الكتابة عملٌ مرهقٌ كسائرِ الأعمال البنَّاءة إلا إنه عملٌ لذَّته لا تفوقها لذَّة، وهي لذة قلما يتذوقها الكسالى وفاترو الهمة، فإن شئتم بلوغ القمم الأدبية حيث "الخالدون"، فعليكم ألَّا تشركوا في محبتكم للقلمِ محبة أي سلطانٍ سواه، وأن تنبذوا كثيرًا من ملذَّات العالمِ وأمجاده. وأنتم متى أدركتم أي مجد هو مجد القلم هانت لديكم من أجله كل أمجاد الأرض، وصنتم أقلامكم عن التملق والتسفل والتبذل، فما سخرتموها لمال أو لسلطان، ولا لأية منفعة عابرة مهما يكن نوعها، ومادامت أقلامكم عزيزة فأنتم أعزاء.


التعليقات