عياش من الفقد إلى العودة..
"عياش".. مُسن تائه في أزقة تعز يعود إلى أسرته بعد غياب ستة عقود (تقرير)
- تعز - تامر الزكري الجمعة, 17 سبتمبر, 2021 - 06:47 مساءً

[ عياش مسن تائه في أزقة تعز يعود لأهله في الحديدة بعد غياب طال قرابة سبعة عقود ]

"عياش شريف"، رجلٌ أضنته الشيخوخة، وصار تائهاً في أزقة مدينة تعز اليمنية، وكل همه أن يظفر بالعودة إلى أهله، فقد نحل جسده واكتسحت التجاعيد وجهه، وصار لا يقوى حتى على الوقوف، بفعل مرض أصابه قبل أيام. ملامح وجهه توحي بأن الرجل قادم من زمن "هومو إريكتوس".

 

هنا في تعز، حيث آخر رصيف وموطن يحتضن هذا "الإنسان"، الذي لا نعلم متى وصل واستقر فيها، فغربته طويله، وبحسب المعلومات التي توصلنا إليها، فإن تنقله امتد لأكثر من نصف قرن، قضاه مرتحلاً بين قرى  ومدن شبه الجزيرة العربية.

 

 أثناء مروري مع أحد الأصدقاء في أزقة سوق الجملة شارع التحرير الأعلى، ظهيرة السبت الماضي، لفت العجوز ذو الجسد النحيل المتهالك انتباهنا، كان ممسكاً بوعاء معدني وعصا خشبية، يدق فيها عشبة "القات" التي ألفها وألفته، وينفث السجائر، التي اتخذ منها خليلةً تساعده على الهروب من واقع لا يعلم فيه كيف ومتى أصبح على هذه الحال؟

 

اقتربنا منه لنسأله عن حاله، وسرعان ما بدأت أصوات العاملين في المحال المجاورة تتعالى من ورائنا، لماذا لا تساعدوه بالعودة إلى أهله؟ هل ستكتفون بتصويره فقط؟

 

جذبنا كلام الناس إلى البدء بمعرفة بعض التفاصيل منهم، حيث أفادوا بأن اسمه "عياش عبد الله علي شريف"، وهو من قرية تسمى الصعيد شرق مديرية بيت الفقيه بمحافظة الحديدة، وهو ما أكده "عياش" بهزة من رأسه. 

 

ويضيف بكلمات موجعة "قدنا شيبة"، صمت بعدها كثيراً، وبعد الإلحاح عليه بالأسئلة عن عمره قال: "كبير كبير.. ما أذكر شيء". اليوم يقف عياش أمام عمر لا يتذكر منه شيئا سوى أنه أصيب بمرض جعله لا يفارق هذا الرصيف.

 

عياش وشارع التحرير

 

 تختلف أنظار المارة في هذا الشارع، سواء الراجلين أو من هم على مركباتهم، فمنهم من ينظر لـ"عياش" بأسى وحزن، ويحاول مساعدته، فيما الآخر يكتفي بالوقوف ومشاهدته فقط.

 

 

 هذا حال الناس منذ أن وطئت قدماه هذا الرصيف، وفجأةً ونحن نتحدث مع عياش إذا بصوت أحدهم، وكان على متن دراجة نارية، يقول: "صوروه وشوهوا صورة اليمن".. أُجبرنا على الحديث معه ليقف أمام هذه الحالة الصعبة التي يعيشها "عياش" وضرورة مساعدته، لكنه تعصب لنظرته وتابع سيره.

 

دخلنا أحد المحال المجاورة لإقامة "عياش"، لمعرفة المزيد من التفاصيل، حيث أوضح لنا العامل فيه أن "عياش" متواجد في هذا الرصيف منذ أكثر من 5 سنوات. ويؤكد ذلك بعض أصحاب المحال المجاورة. يقول "حلمي الأثوري" وهو عامل في أحد المحال التجارية، "لي في هذا الشارع ثلاث سنوات ودائماً أشاهده هنا". الجميع هنا لا يعلمون من أي أرض قدم، وهل كان قبله في تعز أم في سواها. 

 

مرض "عياش"

 

 لا زال "عياش" يقاوم صعوبة الحياة، ينهض في الصباح ليخرج إلى شوارع المدينة وأزقتها، فيحصل على ما يساعده على العيش. ويعود ليلاً إلى هذا الرصيف ولم يكن يشكو من أي شيء، بحسب ما يقول  "محمد حميد" العامل في محل الملابس المجاور.

 

 إلا أن مرضاً أصابه قبل نصف شهر تقريباً جعله مقعداً، فبدأ يطلب من بعض الشباب جيرانه المفترضين الذين يعملون في المحال التجارية، أن يساعدوه في العودة إلى أهله وقريته في الصعيد التي أفصح عنها مؤخراً، وعن موقعها.

 

مبادرة لإعادة "عياش"

 

نشر بعض الشباب العاملين صورا لـ"عياش" على العديد من شبكات التواصل الاجتماعي علّ أحدا يتعرف عليه من أهله لكن دون جدوى.

 

توجه أحدهم إلى بائعي الفل الذين يعملون في شارع جمال، والذين ينتمون لمدينة الحديدة، فأبدوا استعدادهم الكبير للمساعدة.

 

هاتف "عمر" وهو أحد بائعي الفل الشخص الذي يزوده بالفل من  مديرية بيت الفقيه ويدعى زبير، وزوده باسم الرجل واسم قريته، والذي بدوره تواصل مع أشخاص يعرفهم في هذه القرية، بدأت أولى المعلومات تصل إلى الأسرة التي كانت تعتقد أن عياش قد مات منذ زمن بعيد، ولا تعلم عنه شيئاً.

 

همزة وصل 

 

شكل كل هؤلاء همزة الوصل الأولى بين "عياش" وأسرته. وبدأ محمد فتيني عبد الله (ابن أخ عياش) بالتواصل وسرد أسماء عائلته المتمثلة بإخوته وأمه. وصلت المعلومات الأولية، فنقلها بائع الفل "عمر" إلى الشاب محمد المطحني، الذي بدوره سأل "عياش" عن أسماء إخوته الذكور والإناث وأمه فجاءت مطابقة لما أفاد به محمد فتيني.

 

 

بدأت الحالة الصحية للعجوز بالتعافي، فكثفنا التواصل مع أهله ليتحركوا إلى مدينة تعز، بيد أن طرق السير بفعل الحصار صارت مضنية، وتجعل من يفكر بالسفر إلى تعز، يتردد بقراره، ومخاطر الانتقال أيضا تشكل هاجساً آخر.

 

حاول أفراد الأسرة يطلبون إرسال "عياش" إليهم لكننا حدثناهم بضرورة وجود واحد منهم لاستلامه، كونه بحاجة للرعاية الصحية، وبضرورة إعادته إلى أهله.

 

سفر الأهل إلى تعز

 

 بادر محمد فتيني وابن أخيه للسفر إلى مدينة تعز، وقال في أول اتصال هاتفي معه "نعم أنا محمد فتيني عبد الله علي شريف.. وهذا عياش عمي.. عرفته عندما كان عمري 10 أعوام في مدينة جدة السعودية والآن عمري 65 عاماً.. عمي غائب عن أهله منذ أكثر من 60 عاما". كان صوت محمد ترافقه غصة الغربة والاختفاء، وعدم معرفة شيء عن عمه لأعوام كثيرة سوى أنه مات ويضيف "والله لا نعلم أين هو، قالوا لنا مات و بقينا لا نعلم عنه شيئا".

 

أما "مازن" وهو أحد أحفاد أخيه، قال لنا باتصال آخر، عند تحركهم من بيت الفقيه "نحن الآن تحركنا باتجاه مدينة إب ونحن أهله وناسه".

 

وصل "محمد فتيني" وابن اخيه "مازن" في ساعة متأخرة من مساء الاثنين إلى تعز، وتوجه سريعاً لمشاهدة عمه، فوجده نائما مستلقٍ على الرصيف المكان المعهود لعياش، قال "بقدر الفرحة التي عمت الأسرة بخبر وجود عمي، حزنت كثيراً على ما يعيشه وعاشه بعيداً عنا".

 

وفي صباح اليوم التالي، توجهنا رفقة ابن أخيه، إلى الرصيف الذي يقطن فيه "عياش"، والتقينا بشباب الحي الذين بادروا كعادتهم في إكمال مبادرتهم التي ابتدؤوها منذ أن بدأ يكشف لهم تفاصيل عائلته وقريته، فقاموا بمشاركة أهله عملية إزالة ما علق على جسده طيلة الفترة التي صار مقعداً فيها، رغم رفضه الشديد ومزاجه المضطرب وحبه لحياة العزلة.

 

عياش وحياة جديدة

 

أخرج إلينا "محمد فتيني" جواز جده الصادر في عام 1952، والذي يشبه وجهه إلى حد كبير وجه ابنه المفقود، وقال "لم يتبق من إخوة عمي سوى عمتي جمالة التي ما إن سمعت خبر وجود أخيها، حتى  سارعت إليّ، وطلبت مني الذهاب إلى تعز لإحضاره إليها".

 

أهل قرية الصعيد التي بدأ يصلهم خبر لم يتوقعوه أبداً، صاروا يترقبون عودة "عياش" بفارغ الصبر، كما وصف ذلك مازن.

 

وحيث تنتهي البدايات المأساوية بنهاية سعيدة تثلج الصدر، يشع بريق الإنسانية، ويتفتح الفل، ويفوح عبقه، في كل أرجاء بيت الفقيه العامرة به، بعودة "عياش" الذي كان في سجلات الموتى، ويستمر أمل الأسرة بعودة أخٍ مفقود هو الآخر، يقال بأنه لا يزال حياً ومتواجداً في رأس الخيمة، وأنه متزوج من امرأة بحرينية ولديه 10 أبناء، فهل ستكتمل فرحتهم بعودة المفقود الآخر؟

 

يقول فتيني "كل شيء متوقع  بعد عودة عياش الذي كنا نعده ميتاً".


التعليقات