الوحدة اليمنية.. أزمة مزمنة وألغام مستقبلية (تحليل)
- عبدالسلام قائد الإثنين, 29 مايو, 2017 - 09:45 مساءً
الوحدة اليمنية.. أزمة مزمنة وألغام مستقبلية (تحليل)

[ شابت الوحدة العديد من الأخطاء عقب تحقيقها من قبل طرفي الحكم ]

تزايد مؤخرًا الحديث عن مصير الوحدة اليمنية، بعد التطورات الأخيرة التي شهدتها عدن، من تشكيل مجلس انتقالي، وعودة مطالب انفصال جنوب اليمن عن شماله إلى واجهة الأحداث، وما سيفرزه ذلك من تأثيرات سلبية على أداء السلطة الشرعية، وأزمات بينية لدى دول التحالف العربي، بسبب الموقف الإماراتي المخالف للإجماع العربي، والمساند لمطالب الانفصال، وتأثير كل ذلك على الحرب ضد الانقلاب.
 
من الناحية العملية، فجنوب اليمن يبدو شبه منفصل عن الشمال، ويتمتع بحكم ذاتي على مستوى كل محافظة، في ظل غياب تام لأي نفوذ عسكري شمالي. ورغم كل ذلك، فالحراك الانفصالي غير قادر على فرض الانفصال كأمر واقع، رغم هشاشة الوحدة، وحالة الإنهاك التي تمر بها مختلف القوى بسبب الحرب الأهلية.
 
معضلة مزمنة
 
في الحقيقة، تمثل قضية الوحدة اليمنية معضلة تاريخية مزمنة، لم تبدأ بظهور الحراك الجنوبي الانفصالي ولن تنتهي بانتهائه، وإنما تعود بداياتها الحقيقية إلى عصور الدويلات اليمنية القديمة، وستستمر إلى عصور قادمة ما لم تظهر دولة قوية وفقًا لأسس عصرية، وتنقل اليمن من مرحلة القبيلة إلى مرحلة الدولة، وتقضي على ثقافة التشطير والانقسام المتراكمة منذ أكثر من عشرة قرون.
 
والمتأمل في مختلف حقب التاريخ اليمني، والبحث في أسباب الحروب الأهلية، وظهور دول أو دويلات واختفاء أخرى، سيجد أن معظم أسباب هذه الحروب، إن لم يكن كلها، كانت بذريعة توحيد اليمن لهذا الطرف، والاستقلال أو الانفصال للطرف الآخر، والذي بدوره عندما يقوى عوده يعمل على توحيد اليمن مرة أخرى، وهذا هو السبب الذي كان وراء ظهور عدة دويلات يمنية قبل ظهور الإسلام، مثل: سبأ، حمير، معين، قتبان، حضرموت، وغيرها. وكذلك ظهور عدة دويلات بعد ظهور الإسلام، مثل: الدولة الزيادية، الدولة الرسولية، الدولة الطاهرية، الدولة الصليحية، وغيرها.
 
اقرأ أيضا: الحراك الانفصالي.. وأوهام تحرير الجنوب من الانقلابيين (تحليل)
 
وبما أن قضية توحيد اليمن شغلت الحيّز الأكبر من اهتمامات اليمنيين عبر التاريخ، واستنزفت قدراتهم وإمكانياتهم بسبب الحروب المنهكة من أجل الحفاظ على الوحدة، سنجد أن أكثر الملوك اليمنيين شهرة في التاريخ هم أولئك الذين تمكنوا من تحقيق الوحدة اليمنية، مثل التبع الحميري الأول شمر يهرعش، وحفيده الملك تبع اليماني المعروف باسم أسعد الكامل، والذي حمل أطول لقب ملكي في تاريخ اليمن، وهو "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابهم في الطود وتهامة"، ذلك لأنه وحد كل هذه المناطق تحت سلطته.
 
غياب الدولة
 
ليس عيبًا أن الدول أو الدويلات اليمنية القديمة قامت على أسس قبلية وعائلية، فقد كان ذلك النمط من أنظمة الحكم هو السائد في كل الحضارات والدول القديمة، حيث كانت القبيلة القوية القادرة على السيطرة وبسط النفوذ هي من تحكم، لكن العيب هو أن اليمن لم تستطع الانتقال من مرحلة القبيلة إلى مرحلة الدولة في العصر الحالي، وإذا افترضنا بأن هناك هامشا من مسمى دولة، إلا أن هذا الهامش ظل ضعيفًا تحت سطوة القبيلة.
 
وإذا قارنا بين اليمن وبين دولة حديثة قريبة منها جغرافيًا، مثل جمهورية مصر، كنموذج لدولة لم يسبق أن ظهرت فيها نزعات انفصالية قياسًا باليمن وبدول عربية أخرى، سنجد أن السبب يكمن في التالي: مصر حكمتها دولة مركزية واحدة منذ عهد الفراعنة وحتى الوقت الحالي، ولم تظهر فيها نزعات انفصالية أو دويلات مستقلة عن الدولة المركزية، بينما اليمن حكمتها عدة دويلات وانقسمت إلى عدة دول في مراحل مختلفة منذ العصور القديمة وحتى العام 1990 الذي تحققت فيه الوحدة اليمنية بشكل سلمي لأول مرة في تاريخ اليمن، رغم ما سبقها من صراع بين الشطرين من أجل الوحدة أيضًا، حيث كان كل شطر يريدها وفقًا لرؤيته وأيديولوجيته.
 
لكن هذه الوحدة السلمية سرعان ما انهارت عام 1994، ليتم بعدها استعادة الوحدة بالقوة بحسب الطريقة السائدة لتحقيق الوحدة منذ القدم. أما أسباب انهيار أول وحدة سلمية في تاريخ اليمن، فهي كما يلي:
 
1- أن الوحدة لم تقم على أسس سليمة، وتمت بشكل عشوائي، لأن كل طرف هرب إليها بسبب الأخطار الداخلية في كل شطر، وأراد كل طرف الاحتماء بالطرف الآخر، فعلي سالم البيض هرب إلى الوحدة بسبب الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالجنوب جراء انقطاع الدعم الاقتصادي المقدم من الاتحادي السوفيتي ثم انهياره، لدرجة أنه عشية إعلان الوحدة كانت ميزانية الدولة الجنوبية "صفرًا"، وعلي عبدالله صالح هرب إلى الوحدة بسبب ما رأى أنها أخطارًا تهدد كرسي الحكم من قبل قوى عسكرية وقبلية نافذة في الشمال، ولاعتقاده أن الجيش الجنوبي سيحمي السلطة التي سيتقاسمها مع الجنوبيين من خطر هذه القوى.
 
2- بعد الوحدة أراد كل طرف من طرفيها أن ينقل إلى الدولة الجديدة مساوئ نظام حكمه في الدولة الشطرية القديمة، وبدت دولة الوحدة وكأنها جسد برأسين، حيث احتفظ كل شطر بجيشه ووسائل إعلامه وهيكله الإداري، وتعمد حزب المؤتمر بقيادة علي صالح التحالف مع قوى جنوبية على خلاف مع الحزب الاشتراكي لإنهاكه في عمقه الاجتماعي، وتعمد الحزب الاشتراكي التحالف مع قبائل شمالية تحيط بالعاصمة صنعاء مستغلًا تهميش علي صالح لها لاستخدامها كورقة ضغط ضده، رغم أن الحزب الاشتراكي حارب القبلية في الجنوب، وشرد مشائخ القبائل هناك خارج البلاد، وتطورت الأزمة بين شريكي الوحدة حتى اندلعت حرب صيف 1994، وانتهت بالقضاء على آخر محاولة انفصالية عملية في تاريخ اليمن المعاصر.
 
اقرأ أيضا: المجلس الانتقالي الجنوبي.. فشل مبكر وقنبلة موقوتة (تحليل)
 
ولعل معضلة اليمن الحالية، والتي تعد سببًا رئيسيًا لظهور مطالب الانفصال في الجنوب، أو التعصب المذهبي والقبلي والمناطقي في شمال الشمال، تتمثل في فشل حكام اليمن بالانتقال بالبلاد من مرحلة القبيلة إلى مرحلة الدولة، بل فقد كان وما زال حكام البلاد يشكلون عائقًا أمام محاولة الانتقال من مرحلة القبيلة إلى مرحلة الدولة.
 
ويمكن ملاحظة ذلك حتى في طريقة انقلاب الحوثيين والمخلوع علي صالح على السلطة الشرعية، فانقلابهما يختلف تمامًا عن الانقلابات العسكرية التي شهدها العالم العربي وبعض دول العالم خلال النصف الثاني من القرن الماضي، حيث كان الانقلابيون يكتفون بالسيطرة على العاصمة ووسائل الإعلام والقبض على الحاكم السابق وبعض أعوانه، ويحافظون على الدولة وهيكلها الإداري، لأنهم يتعاملون بعقلية رجال دولة، وليس بعقلية قبائل همجية ومتخلفة.
 
أما انقلاب المخلوع علي صالح والحوثيين على السلطة الشرعية، فقد اختلف تمامًا عن كل الانقلابات العسكرية في العالم، أي أنه حمل سمات القبلية الهمجية المتخلفة، ذلك أن خروجهم من شمال الشمال، واكتساحهم للمدن، وممارسة القتل والنهب والتدمير العشوائي وإحراق المزارع، يشبه تمامًا ما كانت تقوم به القبائل الجرمانية البربرية والهمجية في أوروبا في العصور القديمة، والتي كانت تتحرك من شمال أوروبا نحو وسط القارة وجنوبها، وتهاجم المراكز الحضرية والمدن وتدمرها وتنهبها وتحرق المزارع وتعيث في الأرض فسادًا.
 
ألغام الفيدرالية
 
وأمام المعضلة التاريخية المعقدة بخصوص الوحدة اليمنية، وما آل إليه الوضع في عهد المخلوع علي صالح من همينة قبيلته على كل مفاصل الدولة، ثم إحيائه للإمامة بغرض تدمير الدولة والانتقام من خصومه السياسيين، وتزايد مطالب انفصال جنوب اليمن، برزت فكرة الفيدرالية كحل رومانسي لهذه الأزمة المعقدة والمركبة في آن واحد، بهدف الحد من هيمنة المركز من جانب، والحفاظ على الوحدة اليمنية من جانب آخر.
 
وبالرغم من التأييد الشعبي والإقليمي الذي تحظى به فكرة الأقاليم الفيدرالية، أو نظام الحكم الفيدرالي، وبالرغم من أن الفيدرالية تبدو بالفعل هي الوسيلة الأنسب لحل أزمة الحكم والوحدة المعقدة والمركبة في اليمن، لكن الأمر ينطوي على مخاطر كبيرة بسبب طريقة توزيع الأقاليم الفيدرالية، والتي لم تكن موفقة، وإذا اعتمدت بصيغتها الحالية فإن ضررها سيكون أكبر من نفعها.
 
وإذا كان الهدف من الفيدرالية التوزيع العادل للثروات، والحد من هيمنة المركز، أي أن الهدف في الأساس اقتصادي بحت، لكن طريقة توزيع الأقاليم الفيدرالية لم تتم وفقًا لأسس اقتصادية، وإنما وفقًا للتجانس الاجتماعي، بالإضافة إلى إطلاق تسميات عليها ذات أبعاد تاريخية، وهذان العاملان: التجانس الاجتماعي والبعد التاريخي، وغياب الجدوى الاقتصادية، كل ذلك من شأنه إثارة النزاعات بين الأقاليم، بسبب الصراع على الثروات والموارد، وسعي الأقاليم التي تتمتع بموارد اقتصادية أكبر إلى الهيمنة عليها، وتكريس ثقافة الانقسام، وهذا ما لاحظناه مبكرًا.
 
فمثلًا، يبدو إقليم حضرموت من أكثر الأقاليم تحمسًا للفيدرالية، بسبب ما يتمتع به من موارد اقتصادية ذاتية، بينما معظم سكان إقليم آزال أبدوا رفضهم للفيدرالية، بسبب عدم امتلاك الإقليم لأي موارد اقتصادية ذاتية، بل فالفيدرالية بصيغتها المعلن عنها وفقًا لمخرجات مؤتمر الحوار الوطني مثّلت السبب الرئيسي للانقلاب وما ترتب عليه من دمار هائل في البلاد، وكان يفترض تشتيت محافظات إقليم آزال بين عدة أقاليم، من أجل إرباك وتشتيت روابط سكانها القبلية وعصبيتهم المذهبية والمناطقية.
 
اقرأ أيضا: إعلان عدن.. الدلالات والرسائل (تحليل)
 
 
بالإضافة إلى ذلك، فاعتماد الفيدرالية بطريقة غير مدروسة، لاسيما في بلاد لم تنتقل بعد من مرحلة القبيلة إلى مرحلة الدولة، سيهمش الدور المفترض للدولة تمامًا، لأن الفيدرالية ستهمش دور الدولة أولًا، وستهمش دور الأحزاب السياسية ثانيًا، خاصة وأن توزيع الأقاليم الفيدرالية كرّس التجانس الاجتماعي والبعد التاريخي، وهي أشياء تتعارض مع فكرة الدولة الوطنية بمفهومها الحديث.
 
ونتيجة لما سبق ذكره، ستظهر عائلات سياسية مهيمنة في كل إقليم، ثم ستظهر عائلات سياسية معارضة لها، إضافة إلى سهولة تحقيق اختراق أجنبي في كل إقليم في حال ظهرت خلافات معقدة بين الأقاليم، وسيتحول كل إقليم إلى وكيل لدولة أجنبية في صراعها مع دولة أخرى، وربما يتم دفع أي إقليم للانفصال أو لإعلان الحرب على إقليم أو أقاليم أخرى محسوبة على دولة أخرى، وليكن لنا عبرة في الاختراق الإيراني عبر الحوثيين وبعض مكونات الحراك الانفصالي، ثم الاختراق الإماراتي مؤخرًا في الجنوب.
 
وإذا كان قد تعذر تغيير عاصمة البلاد بشكل دائم، للحد من نفوذ هيمنة المركز، أو بالأصح هيمنة قبائل شمال الشمال، وكان الحل الوحيد هو النظام الفيدرالي، من أجل التوزيع العادل للثروة، والحفاظ على الوحدة الوطنية، فكان يجب أن يتم توزيع الأقاليم الفيدرالية وفقًا لأسس وعوامل اقتصادية، وتشكيل أقاليم تجمع بين محافظات شمالية وأخرى جنوبية، من أجل وضع حد لأي نزعات انفصالية.
 
مرحلة جديدة
 
الخلاصة، ما يعتمل اليوم في الساحة الوطنية سيكون مقدمة لمرحلة جديدة من تاريخ البلاد، وذلك بعد أن توقفت حركة التاريخ اليمني عند الحكم العثماني والاحتلال البريطاني وهيمنة الإمامة الزيدية، وأفرز كل ذلك الوضع التالي:
 
- هيمنة وعنصرية وطائفية وتعصب مذهبي وقبلي كرسته الإمامة الزيدية في مناطق شمال الشمال.
 
- الإيمان بضرورة وجود الدولة والتمدن وحب العلم والعمل وغياب العنصرية والتعصب القبلي في المناطق الوسطى والغربية، أي محافظات إب، وتعز، والحديدة، وكان ذلك من ثمار الحكم العثماني الذي تركز كثيرًا في هذه المناطق، ونقل إليها بعضًا من مظاهر المدنية والتي تطورت مع مرور الزمن.
 
- الانقسامات البينية والتفتت الاجتماعي في المحافظات الجنوبية، بسبب سياسة "فرق تسد" التي كرسها الاحتلال البريطاني في الجنوب، وتأسيسه لأكثر من عشرين سلطنة ومشيخة متصارعة فيما بينها.
 
- بقاء بعض المحافظات اليمنية على بداوتها وسجيتها القبلية لبعدها عن مختلف عوامل التأثير السابقة، مثل مأرب وأجزاء من الجوف والبيضاء وشبوة.
 
وبناءً على كل ما سبق، يمكن القول إن ما يحدث اليوم في الساحة اليمنية من شأنه التأسيس لمرحلة جديدة من تاريخ البلاد، وهذه المرحلة إما ستكون انتكاسة تاريخية لن تتعافي منها اليمن إلا بعد سنوات وربما عقود كثيرة، وإما ستكون انطلاقة جديدة نحو المستقبل، تتجاوز مخلفات الماضي، وتنتقل بالبلاد من مرحلة القبيلة إلى مرحلة الدولة.
 


التعليقات