"الموقع بوست" يرافق رعاة الإبل بتعز.. ثراء الماضي وبؤس الحاضر (تقرير)
- أكرم ياسين الاربعاء, 23 يونيو, 2021 - 07:37 مساءً

[ إبل في ريف تعز ]

يلتحفون السماء ويفترشون الأرض، ولا مأوى يقيهم صقيع الشتاء، ولا أسقفاً تعصمهم من قيض الشمس الحارقة، وأجسادهم السمراء المنهكة تروى قصصاً كثيرة عن رحلة حياة دائمة من أرض الى أرض ومن مَناخ إلى مَناخ، ولا يعرفون الهجوع ولا للراحة طعماً.

 

يعيشون رحلة عناء يومية خارج سياق الزمن وتطورات العصر بحثاً عن العشب، وعشقاً لمهنة توارثوها عن أجدادهم، وتوشك أن تنقرض بفعل تطورات الزمن المتسارعة، أولئك هم رعاة الإبل في اليمن الذين عاش معهم مراسل "الموقع بوست" يوما كاملاً وليلة من الساعة الخامسة فجراً يوم الجمعة 18يونيو/حزيران الجاري، وحتى فجر اليوم التالي، فشل خلالها في شرح عمله الصحفي لرعاة يتنقلون في هامش حياة لا يعرف مكابدتها سواهم، لكنه نجح في جعلكم تشاركونهم تفاصيل حياة جديرة بالشغف والتقدير.

 

يقول على أحمد (52 عاماً) إنه يمارس مهنة رعي الإبل منذ سن المراهقة، وإنه قضاها راعياً لإبله وإبل أقاربه رسخت في وجدانه ولعاً وعشقاً لمهنة قانونها ترحال دائم بلا توقف.

 

ويضيف "على أحمد" وهو يراقب إبله بارتياح مشوب بريبة ناتجة عن عدم فهمه لمغزى كلمة "صحفي"، أنه يمتلك مع أحد إخوانه وشقيقته 50 رأساً من الإبل، ويساعده في رعيها ابن شقيقته "سلطان" (26 عاماً) وابن أخيه "فيصل" (28 عاماً).

 

يشرح "على" الذي ينحدر من منطقة "العلقمة"، وهي إحدى العزل النائية الواقعة بين محافظتي تعز ولحج اليمنيتين ويشتهر أهلها برعي الإبل، والماعز، والضأن، تفاصيل مهنة رعي الإبل وطقوسها والتي تبدأ عادة من شهر مايو/أيار موسم هطول الأمطار من كل عام، وتستمر حتى نوفمبر/تشرين ثاني وهي أشهر الزراعة السنوية الستة في محافظتي تعز ولحج.

 

من مسقط رأسه "العلقمة" تبدأ رحلة "على" مع إبله متجها شمالاً، واضعاً على ظهر إحدى الإبل ملابسه هو ومعاونيه، وبطانيات رثة يلتحفون بها عند حلول المساء.

 

ويستطرد "على" الذي لا يجيد القراءة والكتابة في حديثه لـ"الموقع بوست" أنه خلال ما يزيد على أربعين عاماً من مزاولته لمهنة رعي الإبل كسب صداقات واسعة لأناس من المناطق التي يمر بها، بالإضافة لمعرفته بأماكن تواجد مراعي الإبل على طول الوديان والبراري التي تتجاوز مساحتها 300 كيلومتر مربع، وكذلك خبرة واسعة في التعامل مع الإبل وأحوالها والعناية بها.

 

يعتمد "على" في الحصول على طعامه اليومي عادة من الأهالي، في كل منطقة يتواجد فيها، الذين يحضر بعضهم وخاصة في المساء إلى مَناخ عقل الإبل، والذي يكون في الغالب أرضا مستوية بعيدة عن المساكن بعض الشيء لمسامرته والحديث معه، بحكم معرفتهم السابقة به، ويعطيهم لبناً مقابل طعامهم، أو يذهب أحد معاونيه إلى أقرب سوق لجلب الطعام إذا لزم الأمر.

 

يوم مع راعي إبل

 

في الخامسة من فجر الجمعة 18يونيو/حزيران الجاري في جبل "المعنى" بعزلة المساحين مديرية الشمايتين محافظة تعز، كان "علي" يناول مراسل "الموقع بوست" قدحاً ممتلئاً بحليب الإبل، واعتذر بلطف عن السماح لنا بتصويره.

 

وبالنسبة لحليب الإبل فله فوائد صحية عديدة متعارف عليها طبياً، كالحماية من مرض السكري، وتعزيز المناعة، وحماية الكبد، والمساعدة في علاج السرطان، وتعزيز صحة القلب، وغيرها من الأمراض.

 

بعد أن تناولنا الإفطار سوياً كان سلطان وفيصل يقومان بفك عقال بعض النوق، ويتميز قطيع الإبل بوجود ثلاث أو أربع نياق تتولي قيادة القطيع، وهي التي يتم عقلها عند المبيت لضمان عدم سريها ليلاً كي لا يتبعها باقي القطيع.

 

مع الصباح ينطلق رعاة الإبل في رحلتهم اليومية المعتادة، بعد تحديدهم الوجهة التي سيتجهون إليها، ويستخدمون لغة خاصة مع إبلهم، وتفهم الإبل توجيهاتهم، مثلما يفهمون هم أيضا مرادها.

 

يمنحك لبن الإبل حيوية ونشاطا وشغفاً بتقمص مهنة راعي إبل ولو ليوم واحد، تلك المهنة التي لا تخلو من متاعب ومفاجآت كهطول المطر بغزارة دون توفر "كنان" قريب، أو سقوط إحدى النياق وإصابتها بكسور، وكذلك حدوث حالة ولادة متوقعة لإحدى النياق، وفي كلتا الحالتين يضطر راعي الإبل حتى لا تتوقف رحلة رعيه اليومية لتركها مؤقتاً على أن يعود لها  أحدهم لاحقاً.

 

ووفقاً لـ"علي أحمد" فإن فترة حمل الناقة تستمر عاماً كاملاً، وعاماً آخر لإرضاع وليدها، وفي حالة وفاة المولود ترفض الأم مغادرة مكان وفاة صغيرها، مما يضطرهم لسلخ جلده، ووضعه على خشب بعرض نصف متر وطول متر، وإخفاء جثة المولود، ثم يقومون بعرض ذلك الجلد على الأم الثكلى، التي بمجرد استنشاقه تتبع حامل الجلد من الرعاة، وهي الحيلة الوحيدة التي يستطيعون من خلالها دفع الأم للسير مع بقية القطيع والسماح لهم بحليبها.

 

تتغير تسميات الناقة حسب مراحل عمرها فهي تبدأ "خبشاً" خلال مرحلة الرضاعة، ثم يطلق عليها "عرصاً" إذا كانت أنثى، أو "قعوداً" إذا كان ذكراً، ومن ثم يطلق عيها ناقة أو جملاً.

 

يبلغ سعر الناقة ذات الجسم الممتلئ والمنظر الجميل 800 ألف ريال يمني، أي ما يعادل (855 دولاراً)، ويزداد الطلب على لحوم الإبل في عيد الأضحى، وتمثل دول الخليج العربي سوقاً رائجة للحوم الإبل اليمنية.

 

ثراء الماضي وبؤس الحاضر

 

في التاريخ العربي الغابر كان يقاس ثراء الرجل بعدد الإبل التي يمتلكها بحسب ما قاله أخصائي تربية المواشي اليمني عبده بجاش الزعزعي لـ"الموقع بوست"، منوهاً بأن تربية الإبل مهنة تقليدية عرفها الإنسان منذ القدم، وظلت حتى مطلع القرن الماضي وسيلة مواصلات وغذاء مهمة بالنسبة لليمني، فلم تكن وسائل المواصلات قد توفرت بالشكل الذي نشاهده اليوم، وإطلاق لقب "سفينة الصحراء" على الجمل نابع من أهميته تلك.

 

وعبر عبده الزعزعي عن قلقه من حالة الانحسار الكبير لأعداد الإبل في اليمن، فأعدادها لا يتجاوز 300 ألف ناقة في الجمهورية وفق آخر إحصائية، وتتواجد أغلبها في المناطق الساحلية، ويعيش رعاة الإبل حالة بؤس وعزلة، الأمر الذي يهدد بانقراض هذه الثروة.

 

ويرجع الزعزعي أسباب تناقص الإبل بهذه الصورة المخيفة في اليمن إلى عوامل عدة منها الوضع الاقتصادي، وشحة الأمطار، وانحسار مناطق المرعى، وتطور الزمن الذي فرض وسائل نقل حديثة، بالإضافة لتخلي الكثير من رعاة الإبل عن مهنة الرعي.

 

يقاوم ما تبقى من رعاة الإبل اليمنيين ظروفاً صعبة طبيعية واجتماعية تدفعهم للتخلي عن تربية الإبل، وهي المهنة التي توارثوها عن أجدادهم منذ الأزل، بيد أن الوضع البائس الذي يعيشه رعاة الإبل يكشف أن انقراض هذه الثروة بات مسألة وقت لا أكثر.


التعليقات