"الترامبية العسكرية" تنزع القشرة المدنية عن ميانمار
- الجزيرة نت الخميس, 04 فبراير, 2021 - 12:59 مساءً

متذرعا بـ"اتهامات ترامبية" بتزوير الانتخابات، عاد جيش ميانمار ليحكم قبضته على مقاليد الحكم في البلاد، معلنا انقلابه على الواجهة المدنية الهشة المتمثلة في الحكومة المدنية التي وضع العسكر الدستور الذي قامت عليه، كما أعاد التأكيد على أن "حكم العسكر" هو المعطى الثابت الذي تقوم عليه الحياة السياسية في ميانمار.

 

والانقلاب العسكري الذي نفذه فجر الاثنين لم يكن مفاجئا لمن تابع التصريحات الصادرة عن القيادة العسكرية في الآونة الأخيرة، أو المطالع لتاريخ العسكر والحكم في ميانمار (بورما سابقا)، حيث كانت علامات التحذير على مرأى من الجميع طوال الوقت.

 

وانتشرت شائعات عن الانقلاب على مدى أيام قبل وقوعه، مما دفع عددا من البعثات الدبلوماسية -ومنها بعثة الولايات المتحدة- إلى إصدار بيان يوم الجمعة الماضي، تقول فيه "نعارض أي محاولة لتغيير نتائج الانتخابات أو إعاقة التحول الديمقراطي في ميانمار"، فرد الجيش ببيان يوم الأحد، حثّ فيه البعثات الدبلوماسية في البلاد على "عدم وضع افتراضات غير مبررة حول الوضع".

 

وقطع الجنرالات الشك باليقين ونفذوا ضربتهم ضد الحكومة "الهجين" التي كانت في السلطة لمدة 5 سنوات فقط، فوضعوا الحكومة المنتخبة ومستشارتها السيدة أونغ سان سوتشي وعددا من نواب البرلمان المنتخب وكذلك الرئيس، رهن الاحتجاز، وأعلنت القوات المسلحة حالة الطوارئ لمدة عام.

 

وجاء استيلاء الجيش على السلطة في اليوم الأول للبرلمان الجديد بعد الانتخابات، والذي كان مقررا أن يعقد أولى جلساته وأن يؤدي أعضاؤه اليمين الدستورية، لكن بدلا من ذلك أرسلهم الجنرات إلى مراكز اعتقال.

 

والذريعة التي يتذرع بها العسكر في انقلابهم لا تعدو كونها مزاعم بتزوير الانتخابات التي جرت في البلاد يوم 8 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وحقق فيها "حزب الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية" بقيادة السيدة أونغ سان سوتشي فوزا ساحقا، وحصل على 396 من أصل 476 مقعدا في مجلسي النواب والشيوخ مجتمعين،  بينما مُني حزب التضامن والتنمية المدعوم من العسكر بفشل ذريع.

 

وعلى الرغم من السيطرة على مقاليد الدولة، لم يكن الجنرالات مرتاحين لتزايد القوة المدنية. وزعم الجنرال الأعلى في البلاد مين أونغ هلينغ أن هناك "مخالفات كبيرة" في الانتخابات الأخيرة، بينما نفت لجنة الانتخابات ذلك، وقالت إنها لا دليل لديها على وجود تزوير.

 

لم يكن هذا الفوز يعني استلام الفائز السلطة بمفرده، وذلك لأن العسكر -مهما كانت نتيجة الانتخابات- يظلون القوة المهيمنة على مقادير البلاد بموجب الدستور الذي وضعوا بنوده وتوخوا فيه أن يكون لهم الحق في تعيين ربع النواب في الهيئات التشريعية والمجالس الإقليمية، قبل أن يجيزوه بعد استفتاء مزور في عام 2008. كما أن الجيش ينصب وحده 3 من أقوى وزراء الحكومة، وهم وزراء الدفاع والداخلية وشؤون الحدود.

 

العقيدة العسكرية

 

عسكر ميانمار جاثمون على رقاب شعبهم منذ نحو 6 عقود كفيلة بأن تجعل الدولة التي كانت ذات يوم واحدة من أغنى الدول في آسيا، في حالة يرثى لها.

 

والمرة الأولى التي انطلقت فيها المدافع في سعيها للانقلاب في ميانمار كانت عام 1962، واعتبر الجيش  انقلابه في ذلك الوقت "ضروريا للحفاظ على اتحاد بورما"، كما كانت تعرف حينها، وأن الغرض منه أن يظل الاتحاد موحدا في مواجهة التمردات العرقية في المناطق الحدودية للبلاد.

 

وعانت الأقليات -التي تشكل ما يقرب من ثلث سكان البلاد- من الاضطهاد على نطاق واسع خلال الحكم العسكري، وأُجبر أطفال الأقليات على أن يصبحوا كاسحات ألغام، وتعرضت نساؤها للاغتصاب الجماعي، وألقي بالآلاف في السجن سجناء سياسيين، وأقنعت شبكة مخابرات عسكرية مخيفة الكثيرين بأن الجدران -سواء كانت أسمنتية أو من الخيزران- لها عيون وآذان.

 

وبعد مرور عامين على مذبحة المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية عام 1988، أجريت الانتخابات وفازت "الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية" -وهي القوة السياسية التي انقلب الجيش عليها قبل يومين- لكن الجنرالات تجاهلوا النتائج. وفي عام 2015، تمكنت الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية مرة أخرى من تحقيق فوز انتخابي ساحق.

 

أيقن أنصار الديمقراطية وزعيمتهم أونغ سان سوتشي التي خرجت من الإقامة الجبرية عام 2011، أنه لا مناص من التعاون مع العسكر والقبول بسياساتهم الداخلية والتعايش معهم، ومن ثم حظيت بتأييد المؤسسة العسكرية الحاكمة في بلادها، لأنها ببساطة دافعت عن حملة التطهير العرقي التي قامت بها ضد مسلمي ميانمار من الروهينغا (أكبر أقلية عرقية من إجمالي السكان البالغ عددهم 50 مليون نسمة). وعلى الرغم من تعهدها السابق بمعالجة النزاعات العرقية، فقد اشتد العنف منذ ذلك الحين وبات تطهيرا عرقيا ممنهجا.

 

فقدت سوتشي الكثير من الاحترام الخارجي لشخصها ودورها لدى الدول الغربية وصارت منبوذة هناك، خصوصا بعد تصريحاتها الصادمة عام 2013 حينما قالت إنها "مغرمة" بالجيش لأنه جيش والدها، في إشارة إلى دور والدها الجنرال أونغ سان في النضال من أجل الاستقلال عن بريطانيا، قبل أن يغتال في يوليو/تموز 1947 قبل عام ونصف من إعلان استقلال بورما.

 

لم تكتف سوتشي بمجرد التصريحات التي أمعنت فيها بإظهار غرامها بالعسكر، فعند ذهابها إلى لاهاي دافعت أمام محكمة العدل الدولية عن السجل الأسود لبلادها فيما يتعلق بالإبادة الجماعية، وبدلا من محاسبة الجيش المتهم في المحكمة الدولية بارتكاب إبادة جماعية ضد مسلمي الروهينغا، دافعت عن فظائعه وهجماته.

 

لم يكن غريبا والحال كذلك أن تجردها منظمة العفو الدولية من جائزة "سفيرة الضمير" الممنوحة لها عام 2009 حينما كانت خاضعة للإقامة الجبرية، كما جردتها كندا من جنسيتها الفخرية، وكذلك فعلت عدة مدن بريطانية مثل غلاسغو وأدنبرة وأكسفورد بتجريدها من لقب "مواطنة فخرية".

 

كما سحب "متحف المحرقة" بواشنطن جائزة "إيلي فيزل" منها، وانطلقت حملة واسعة لإجبار مسؤولي جائزة نوبل للسلام على سحب الجائزة الممنوحة لها عام 1991، واتهام الأمم المتحدة لها بالتواطؤ مع كبار جنرالات الجيش في ارتكاب جرائم إبادة.

 

لم تشفع مواقف سوتشي لدى الجيش الذي عاد وانقلب على الهامش المدني الضيق والمحدود الذي سمح به في تشكيل الحكومة لزوم الاستهلاك الخارجي، فكان انقلابه سهلا لأنه لم يكن انقلاب عسكر على عسكر، ولكن انقلاب عسكر على هامش ضيق في حكومة مدنية صنعه هو بمواصفات تتلاءم على مصالحه ونفوذه.

 

هيمنة على الاقتصاد

 

وكغيره من الجيوش المهيمنة في أكثر من دولة من الدول المحكومة بالعسكر، يهيمن جيش ميانمار على اقتصاد البلاد، ولديه إمبراطورية اقتصادية شاسعة، ويتملك اثنين من أكبر التكتلات الاقتصادية في البلاد، وهما "اتحاد ميانمار الاقتصادي"، و"شركة ميانمار الاقتصادية". وتعمل الشركات المملوكة للجيش في العديد من القطاعات، بما في ذلك التعدين والطاقة والبنوك والتأمين والاتصالات والنقل والسياحة وتكنولوجيا المعلومات، مما يضمن مصدرا مهما ومستمرا لثروة الجنرالات.

 

ويضاف إلى ذلك أن معظم الأراضي في ميانمار مملوكة للحكومة. وللجنرالات تاريخ في الاستيلاء على الممتلكات التي يريدونها وتسليمها إلى شركاتهم المفضلة، ويتمتع القائد العام للجيش بالسلطة على العديد من قرارات استخدام الأراضي من خلال وزارة الداخلية.

 

وفي السنوات الأخيرة حاول مزارعون في ميانمار استعادة 20 ألف فدان خارج يانغون استولى عليها الجيش قبل عقدين، فما كان من الجيش إلا أن وجّه بسجن 20 مزارعا لشهور عام 2014 بعد أن رفعوا دعوى قضائية لاستعادة أراضيهم، كما هدد مزارعين آخرين بالملاحقة.

 

ويخشى بعض النشطاء من أن يعلن الجنرال قرى الروهينغا المهجورة شاغرة، ويعطي الممتلكات لمجموعات عرقية أخرى، مما يزيد من صعوبة عودة اللاجئين. ففي سبتمبر/أيلول الماضي، زار أحد جنرالات الجيش بلدة في شمال ولاية راخين (أراكان) على الحدود مع بنغلاديش، وأعرب عن أسفه -في خطاب ألقاه هناك- من أن "الروهينغا كانوا أكثر نجاحا في الأعمال من الجماعات العرقية الأخرى".

 

وكما أن عودة مئات الآلاف من لاجئي الروهينغا إلى ديارهم -التي فروا منها نجاة بأرواحهم من إبادة الجيش الجماعية لهم- تبدو بعيدة، كذلك تبدو عودة هامش الديمقراطية المحدود الذي سمح بها الجيش ثم انقلب عليه، خصوصا أنه لا يأبه كثيرا بالعقوبات الغربية ويجد في الصين ظهيرا يخفف وقعها عليه.


التعليقات