جواسيس إيرانيون تخلت عنهم أمريكا يكشفون كيف خذلتهم (سي.آي.إيه)
- رويترز السبت, 01 أكتوبر, 2022 - 05:54 مساءً
جواسيس إيرانيون تخلت عنهم أمريكا يكشفون كيف خذلتهم (سي.آي.إيه)

كانت دقائق تفصل الجاسوس غلام رضا حسيني عن مغادرة إيران عندما أُلقي القبض عليه. وكان حسيني في مطار الإمام الخميني في طهران في أواخر عام 2010، يستعد لرحلة إلى بانكوك. وهناك كان سيلتقي المهندس الإيراني مع عملاء وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي.آي.إيه)، لكن قبل أن يتمكن من دفع ضريبة مغادرة البلاد رفضت ماكينة الصراف الآلي بالمطار بطاقته باعتبارها غير صالحة. وبعدها بلحظات، طلب ضابط أمن الاطلاع على جواز سفر حسيني قبل أن يقتاده بعيدا.

 

وقال حسيني إنه نُقل إلى قاعة خاوية لكبار الشخصيات وطُلب منه الجلوس على أريكة أُديرت في مواجهة الحائط. فدس حسيني، الذي تُرك بمفرده لبضع لحظات غلفها الارتباك والتشوش ولم ير خلالها أي كاميرات أمنية، يده في جيب بنطاله وأخرج بطاقة ذاكرة مليئة بأسرار الدولة يمكن أن تفضي إلى إعدامه ووضعها في فمه ومضغها قبل أن يبتلعها.

 

وروى حسيني أنه لم يمض وقت طويل حتى دخل عملاء وزارة الاستخبارات والأمن الوطني الإيرانية الغرفة ليباشروا تحقيقا، تخلله الضرب. ولم يكن لإنكاره وإتلافه البيانات أي جدوى، إذ كانوا يعرفون كل شيء بالفعل على ما يبدو. لكن كيف؟

 

قال حسيني لرويترز "هذه أشياء لم أخبر بها أحدا في العالم". بل ذهب الأمر بحسيني، والأفكار تتقافز وتتسابق في ذهنه، إلى التساؤل عما إذا كانت (سي.آي.إيه) نفسها قد باعته.

 

وكان حسيني ضحية لعدم مبالاة (سي.آي.إيه) أكثر من كونه ضحية لخيانتها، وذلك وفق ما كشفه تحقيق أجرته رويترز على مدى عام في كيفية تعامل الوكالة مع عملائها. فقد سهّل نظام الاتصالات السرية المعيب التابع للوكالة على المخابرات الإيرانية التعرف عليه والقبض عليه. وقال حسيني، الذي سُجن لما يقرب من عشر سنوات وتحدث علنا للمرة الأولى، إنه لم يسمع شيئا من الوكالة مرة أخرى حتى بعد إطلاق سراحه في عام 2019.

 

وامتنعت (سي.آي.إيه) عن التعليق على رواية حسيني.

 

ولم تكن تجربة حسيني في تعامل الوكالة السيء معه وتخليها عنه هي الأولى من نوعها، إذ وجدت رويترز في مقابلات أجرتها مع ستة عملاء إيرانيين سابقين للوكالة أنها كانت غير مكترثة من نواح أخرى في خضم حملتها المكثفة لجمع معلومات مخابرات في إيران مما يعرض حياة أولئك الذين يخاطرون بأنفسهم لمساعدة الولايات المتحدة للخطر.

 

وقال عميل إن (سي.آي.إيه) أمرته بإفراغ ما في جعبته من معلومات في مكان بتركيا كانت تعلم أنه تحت المراقبة الإيرانية. وقال رجل آخر، وهو موظف حكومي سابق سافر إلى أبو ظبي للحصول على تأشيرة دخول للولايات المتحدة، إن أحد ضباط الوكالة هناك حاول دون جدوى دفعه للتجسس لصالح الولايات المتحدة مما أدى إلى اعتقاله عندما عاد إلى إيران.

 

وهذه الخطوات الجريئة إلى حد التهور التي تقدم عليها (سي.آي.إيه) تُعرض أحيانا الإيرانيين العاديين للخطر مقابل احتمال ضئيل أن تحصل على معلومات مخابراتية مهمة. وأفاد الإيرانيون الستة بأنه عندما أُلقي القبض عليهم لم تقدم الوكالة لهم أو لعائلاتهم أي مساعدة حتى بعد سنوات.

 

قال جيمس أولسون، الرئيس السابق لمكافحة التجسس في (سي.آي.إيه)، إنه لم يكن على علم بهذه الحالات تحديدا لكنه قال إن أي تخل غير ضروري عن المصادر من قبل الوكالة سيمثل فشلا مهنيا وأخلاقيا.

 

وتابع "إذا كنا مهملين ولا نبالي وتعرضنا للاختراق، فعار علينا إذن... إذا دفع الناس ثمن الثقة بنا لمشاركة المعلومات ثم تعرضوا للعقاب فنكون قد فشلنا أخلاقيا".

 

وزُج بهؤلاء الرجال في السجن في إطار حملة مكافحة تجسس شرسة بدأتها إيران في عام 2009، وهي حملة أفادت تقارير إخبارية وثلاثة من مسؤولي الأمن القومي الأمريكي السابقين بأنها جاءت نتيجة مجموعة من أخطاء (سي.آي.إيه) إلى جانب أسباب أخرى. وقالت طهران في تقارير لوسائل إعلام رسمية إنها تمكنت في نهاية المطاف من الإيقاع بعشرات من عملاء (سي.آي.إيه) بعد تحريات مضنية.

 

ولسرد هذه القصة، أجرت رويترز مقابلات استغرقت عشرات الساعات مع الإيرانيين الستة الذين أدانتهم حكومتهم بالتجسس بين عامي 2009 و 2015.

 

وللتحقق من روايتهم، أجرت رويترز مقابلات مع عشرة مسؤولين سابقين بالمخابرات الأمريكية على دراية بعمليات إيران وراجعت سجلات الحكومة الإيرانية والتقارير الإخبارية كما أجرت مقابلات مع أشخاص يعرفون هؤلاء الجاسوسين.

 

ولم يؤكد أي من المسؤولين الأمريكيين السابقين أو الحاليين، الذين تحدثوا مع رويترز، هويات أي من مصادر (سي.آي.إيه) أو يكشفوا عنها.

 

وامتنعت الوكالة عن التعليق على ما توصلت إليه رويترز أو على عملياتها في إيران. وقالت متحدثة إن (سي.آي.إيه) تبذل قصارى جهدها لحماية الأشخاص الذين يعملون معها.

 

ولم ترد وزارة الخارجية الإيرانية أو بعثتها لدى الأمم المتحدة في نيويورك على طلبات للتعليق.

 

وكان حسيني هو الوحيد من بين الرجال الستة الذين قابلتهم رويترز الذي قال إنه تم تكليفه باستخدام وسيلة تراسل عرضة للاختراق. لكن تحليلا أجراه اثنان من المتخصصين المستقلين في الأمن الإلكتروني وجد أن نظام التواصل السري عبر الإنترنت، الذي لم يعد له وجود الآن والذي استخدمه حسيني ووجدته رويترز في أرشيف على الإنترنت، ربما كشف 20 من الجواسيس الإيرانيين الآخرين على الأقل وربما مئات العملاء الآخرين في بلدان أخرى حول العالم.

 

وكانت منصة التراسل، التي ظلت تعمل حتى عام 2013، مخفية داخل مواقع أخبار وهوايات من حيث يمكن للجواسيس التواصل مع (سي.آي.إيه). وتأكدت رويترز من وجود هذه المنصة من أربعة مسؤولين أمريكيين سابقين.

 

ولا تزال هذه الإخفاقات تطارد الوكالة بعد سنوات. فقد أفادت صحيفة نيويورك تايمز بأن قيادة (سي.آي.إيه) حذرت في سلسلة من البرقيات الداخلية العام الماضي من أنها فقدت معظم شبكتها من الجواسيس في إيران وأن الإجراءات الخرقاء لا تزال تعرض مهمة الوكالة للخطر في جميع أنحاء العالم.

 

وتعتبر (سي.آي.إيه) إيران أحد أصعب أهدافها. فمنذ ان استولى الطلاب الإيرانيون على السفارة الأمريكية في طهران عام 1979 لم يكن للولايات المتحدة وجود دبلوماسي في البلاد. واضطر ضباط (سي.آي.إيه) في المقابل إلى تجنيد عملاء محتملين خارج إيران أو من خلال الاتصالات عبر الإنترنت. ويترك وجود الولايات المتحدة الضعيف داخل إيران المخابرات الأمريكية في وضع لا تحسد عليه وسط أحداث مثل الاحتجاجات التي تجتاح إيران الآن على وفاة امرأة في حجز لشرطة الأخلاق التي اعتقلتها لانتهاكها قواعد اللباس في البلاد.

 

وقال أربعة ضباط مخابرات سابقين قابلتهم رويترز إن الوكالة مستعدة لتحمل مخاطر أكبر مع المصادر عندما يتعلق الأمر بالتجسس على إيران. ويمثل الحد من الطموحات النووية للجمهورية الإسلامية أولوية في واشنطن. وتصر طهران على أن جهودها النووية مخصصة لاحتياجات الطاقة فقط.

 

وقال جيمس لولر، الضابط السابق في (سي.آي.إيه) الذي كان يركز في عمله على ملفات من بينها أسلحة الدمار الشامل وإيران "اختراق برنامج الأسلحة النووية الإيراني هدف مخابراتي مهم للغاية، مهم للغاية... وبالتالي عندما يقومون بتحليل المخاطر في مقابل المكاسب، عليك أن تفكر في حجم المكاسب الهائلة".

 

وكُتب الكثير عن حرب تدور في الخفاء منذ عقود بين إيران وواشنطن والتي تجنب فيها الطرفان مواجهة عسكرية كاملة لكنهما نفذا عمليات تخريب واغتيالات وهجمات إلكترونية. لكن العملاء الستة، الذين أجرت رويترز مقابلات معهم لأول مرة، قدموا رواية غير مسبوقة عن لعبة التجسس القاتلة من منظور الإيرانيين الذين عملوا لحساب (سي.آي.إيه).

 

وقضى الإيرانيون الستة أحكاما بالسجن تتراوح بين خمس إلى عشر سنوات. وبقي أربعة، من بينهم حسيني، في إيران بعد إطلاق سراحهم وظلوا عرضة للاعتقال من جديد، فيما فر اثنان من البلاد وأصبحا لاجئين.

 

واعترف الرجال الستة بأن مسؤولي (سي.آي.إيه) لم يقدموا لهم وعودا مؤكدة قط بالمساعدة إذا أُلقي القبض عليهم. ومع ذلك، اعتقدوا جميعا أن المساعدة الأمريكية ستأتي يوما ما.

 

ويمكن أن تشكل عمليات كشف الجواسيس تحديا لمصداقية (سي.آي.إيه)وهي تسعى لإعادة بناء شبكة تجسس في إيران. ونشرت وسائل الإعلام الرسمية في البلاد بعض هذه الحالات ووصفت الوكالة بأنها لا تتمتع بالمهارة أو الكفاءة.

 

وقال حسيني لرويترز "إنها وصمة عار على جبين الحكومة الأمريكية".

 

ورفضت المتحدثة باسم (سي.آي.إيه) تامي كوبرمان ثورب التعليق على كلام حسيني أو قضايا إيرانيين معتقلين أو أي جانب من جوانب طريقة إدارة الوكالة للعمليات. لكنها قالت إن الوكالة لن تعبث أبدا بحياة من يساعدونها.

 

وتابعت "تأخذ وكالة المخابرات المركزية التزاماتها بحماية الأشخاص الذين يعملون معنا على محمل الجد ونعلم أن كثيرين يفعلون ذلك بشجاعة ويعرضون أنفسهم لخطر كبير... فكرة أن وكالة المخابرات المركزية لا تعمل بالجدية المطلوبة لحمايتهم لهي فكرة خاطئة".

 

* متطوع غاضب

 

لجأ حسيني للتجسس بعد أن سلك طريقا وعرة للوصول إلى مهنة مربحة. وقال إنه نجل خياط نشأ في طهران وتعلم الخراطة وإصلاح السيارات وأظهر لرويترز الشهادة التي حصل عليها من مدرسة مهنية.

 

وتابع أن المعلمين اكتشفوا ذكاءه ودفعوه لدراسة الهندسة الصناعية في جامعة أمير كبير للتكنولوجيا المرموقة. وقال إن أستاذا هناك جعله على اتصال بطالب سابق له صلات بالحكومة الإيرانية وأصبح في النهاية شريكا له في العمل.

 

وقدمت شركتهما الهندسية، التي تأسست في عام 2001، خدمات لمساعدة الشركات على تحسين استهلاك الطاقة. وقال حسيني إن الشركة عملت في البداية بشكل أساسي مع مصانع المواد الغذائية والصلب وتعاقدت بمرور الوقت مع قطاعي الطاقة والدفاع الإيرانيين. وأكدت سجلات الشركة وحسابات وسائل الإعلام الإيرانية ومقابلات مع ستة شركاء رواية حسيني عن خلفيته المهنية.

 

وقال حسيني إن نجاح الشركة جعل عائلته ثرية مما سمح له بشراء منزل كبير وقيادة السيارات المستوردة وقضاء إجازات خارج البلاد. لكن تراجعت أعماله في السنوات التي أعقبت انتخاب الرئيس محمود أحمدي نجاد، الذي تولى الحكم من 2005 إلى 2013.

 

وفي عهد أحمدي نجاد، وهو محافظ متحالف مع المؤسسة الدينية الحاكمة، سُمح لقوات الأمن الإيرانية بدخول قطاع الصناعة مما زاد من سيطرة الجيش على المشروعات التجارية المربحة. وقال نشطاء إيرانيون في مجال تحقيق الديمقراطية إن الشركات وجدت أن نشاطها ينحسر غالبا في دور مقاولين من الباطن لهؤلاء الوافدين الجدد مما قلص حصتها من الكعكة.

 

وقال حسيني إن كل تعاقداته الجديدة كان لا بد أن تمر عبر بعض من هذه الشركات مما أجبره على تسريح عاملين مع انخفاض الأرباح.

 

وأضاف حسيني بينما كان يتحدث بعد مرور عشر سنوات على الأحداث "لم يعرفوا كيفية إنجاز الأعمال، لكنهم أخذوا نصيب الأسد من الأرباح... كان الوضع وكأنك رئيس الشركة وتقوم بكل شيء من الألف إلى الياء، وترى راتبك يتقاضاه معظم الموظفين المبتدئين. شعرت وكأنني تعرضت للاغتصاب".

 

في الوقت نفسه، كان لهجة الخطاب الأمريكي تتصاعد ضد أحمدي نجاد. واعتبرت واشنطن الرئيس الإيراني محرضا خطيرا على تطوير أسلحة نووية. فبدأ حسيني يشعر بأن نظاما فاسدا دمر حياته وأن الحكومة غريبة الأطوار ومتقلبة بدرجة يتعذر معها السماح لها بامتلاك لأسلحة نووية.

 

واستشاط غضبا.

 

وفي يوم ما من عام 2007، قال إنه فتح الموقع الإلكتروني لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية ونقر على رابط الاتصال بالوكالة وكتب باللغة الفارسية "أنا مهندس عمل في موقع نطنز النووي ولدي معلومات".

 

وتقع نطنز، وهي من منشآت تخصيب اليورانيوم الرئيسية على بعد أكثر من 350 كيلومترا إلى الجنوب من طهران. ويشير الأرشيف الإلكتروني لشركة حسيني الهندسية من عام 2007 إلى أن الشركة عملت في مشاريع الطاقة الكهربائية المدنية. ولم يتسن لرويترز التأكد بشكل مستقل من عمل حسيني في نطنز.

 

وقال حسيني إنه اندهش عندما تلقى بعد شهر بريدا إلكترونيا (سي.آي.إيه).

 

* عضو في الفريق؟

 

وبعد ثلاثة أشهر من هذا الاتصال، قال حسيني إنه توجه إلى دبي. وفي سوق التسوق الأنيق، سوق مدينة جميرا، بحث عن امرأة شقراء تحمل كتابا أسود. وكان واقفا خارج المطعم الذي اتفقا على اللقاء عنده حين وصلت برفقة رجل.

 

ودلهم مدير المطعم على طاولة منعزلة في الزاوية. واكتفت المرأة بتعريف نفسها باسم كريس وكانت تتحدث بالإنجليزية ويتولى زميلها الترجمة إلى الفارسية. وبينما كانت ترتشف كأسا من الشمبانيا، أخبرته بأنهما كانا الشخصين اللذين كان يتبادل معهما الرسائل خلال الأشهر القليلة الماضية في منصة جوجل للدردشة.

 

سألت حسيني عن عمله. فقال إنه أوضح أن شركته عملت قبل عدة سنوات على عقود لتحسين تدفق الكهرباء في موقع نطنز، وهو عمل معقد للحفاظ على دوران أجهزة الطرد المركزي بالسرعة المطلوبة لتخصيب اليورانيوم. ومنشأة نطنز، التي تقع في وسط إيران، تعد محور برنامج طهران النووي، الذي قالت الحكومة إنه مخصص لإنتاج الكهرباء المدنية. لكن واشنطن ترى أن نطنز هي أساس مساعي إيران لامتلاك أسلحة نووية.

 

وأخبر حسيني كريس بأن شركته كانت متعاقدة من الباطن مع شركة كالاي إلكتريك ، وهي شركة فرضت عليها الحكومة الأمريكية عقوبات في عام 2007 بسبب دورها المزعوم في برنامج التطوير النووي الإيراني. وأضاف أنه يسعى للحصول على عقود إضافية في مواقع نووية وعسكرية حساسة أخرى.

 

لم ترد شركة كالاي إلكتريك على طلبات للتعليق.

 

وفي اليوم التالي التقى الثلاثة مرة أخرى لكن هذه المرة في غرفة حسيني بفندق مطل على الخليج. ونشر حسيني خريطة تشبه المتاهة على المكتب تُظهر الكهرباء المتصلة بمنشأة نطنز النووية. وتذكر كيف فغرت كريس فاها دهشة حينها.

 

وأوضح أن تحديد مقدار الطاقة المتدفقة إلى المنشأة على الخريطة قدم لواشنطن الأساس الذي يمكن بناء عليه تقدير عدد أجهزة الطرد المركزي التي تعمل حاليا. وعبر عن اعتقاده بأنه يمكن استخدام هذا الدليل لتقييم مدى التقدم المحرز في معالجة اليورانيوم العالي التخصيب اللازم لصنع سلاح نووي.

 

وقال حسيني إنه لم يكن يعلم بهذا الأمر في ذلك الوقت، لكن نطنز كانت بالفعل هدفا للسلطات الأمريكية. وخلص محللون أمنيون إلى أن واشنطن وإسرائيل أطلقتا في العام نفسه سلاحا إلكترونيا من شأنه أن يخرب أجهزة الطرد المركزي هذه ويصيبها بفيروس يمكنه تعطيل تخصيب اليورانيوم في نطنز لسنوات مقبلة. ولم تتمكن رويترز من تحديد ما إذا كانت المعلومات التي قدمها حسيني قد ساعدت في ذلك التخريب الإلكتروني أو عمليات أخرى.

 

وقال حسيني في الاجتماعات اللاحقة إن وكالة (سي.آي.إيه) طلبت منه التركيز على هدف أمريكي أوسع نطاقا، وهو تحديد نقاط الضعف المحتملة في شبكة الكهرباء الوطنية الإيرانية التي يمكن أن تؤدي إلى انقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة وإصابة البلاد بالشلل إذا تعرضت لهجوم صاروخي أو تخريبي.

 

وقال حسيني إنه واصل لقاءاته مع عملاء (سي.آي.إيه) في تايلاند وماليزيا، والتي بلغت سبعة اجتماعات في المجمل على مدى ثلاث سنوات. وللتدليل على أنه كان يسافر، قدم حسيني صورا من جواز سفره عليه ختم الدخول في جميع الرحلات باستثناء أول رحلتين، قال إنه استخدم فيهما جواز سفر أقدم لا يستخدمه الآن.

 

ومع تطور العلاقة، قال حسيني إن كريس حل محلها رجل كان يرافقه مسؤولون وصفوا بأنهم أكثر خبرة بعمليات إيران في (سي.آي.إيه)بالإضافة إلى خبراء فنيين قادرين على فهم مصطلحاته الهندسية.

 

وحفز الدور الجديد حسيني، ليضفي على عمله إحساسا بالأهمية والعجلة. وسارع إلى تأمين عمل من شأنه أن يمكنه من الحصول على قدر أكبر من معلومات المخابرات التي سعت إليها (سي.آي.إيه). وقال إن شركته تعاقدت مع إحدى وحدات منظمة ستاد، وهي تكتل أعمال كبير يسيطر عليه المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي، لتقييم الاحتياجات الكهربائية لمشروع عملاق للتسوق والمباني التجارية في شمال طهران.

 

وقال حسيني إنه دفع شركة الكهرباء الحكومية تافانير، التي تمثل المنظمة التجارية للمرشد الأعلى، إلى توفير الكهرباء اللازمة للتنمية في مختلف أنحاء البلاد. وعندما قالت تافانير إنه ليس لديها ما يكفي من الكهرباء لتلبية الاحتياجات الضخمة للمشروع، طلب حسيني من الشركة تقديم تحليلات مفصلة تخص الشبكة الوطنية. وسمح له ذلك بالوصول إلى الخرائط التي توضح كيفية تدفق الكهرباء إلى المواقع النووية والعسكرية وكيف يمكن تخريب نقاط الضعف في الشبكة.

 

ولم ترد ستاد وتافانير على طلبات للتعليق.

 

وفي أغسطس آب 2008، أي بعد عام من تحوله إلى جاسوس ، قال حسيني إنه التقى بضابط كبير في (سي.آي.إيه) وآخرين في فندق بدبي.

 

ونقل حسيني عن الضابط قوله "نحن بحاجة إلى توسيع نطاق الالتزام". وقال مسؤولان سابقان من (سي.آي.إيه) إن الضابط سلم حسيني ورقة وطلب منه كتابة تعهد بأنه لن يقدم المعلومات التي يكشف عنها لحكومة أخرى، وهي ممارسة لوكالة المخابرات المركزية تهدف إلى تعميق شعور العميل بالالتزام.

 

ثم عرف ضابط آخر من الوكالة في الاجتماع حسيني بنظام اتصالات سري يمكنه استخدامه للوصول إلى المسؤولين عن التعامل معه، وهو موقع إخباري بدائي لكرة القدم باللغة الفارسية يسمى (إيرانيان جولز دوت كوم). وبإدخال كلمة مرور في شريط البحث تظهر نافذة تراسل سري مما يتيح لحسيني إرسال معلومات وتلقي تعليمات من (سي.آي.إيه).

 

وعندما عبر حسيني عن أسفه على أنه لم يحضر عيد ميلاد ابنته الثالث خلال إحدى الرحلات، قال إن ضابطا من الوكالة اشترى له دمية على شكل دب ليقدمها لابنته. وقال حسيني لرويترز "شعرت أنني انضممت إلى الفريق".

 

* انهيار النظام السري

 

ما لم يدركه حسيني هو أن أقوى جهاز مخابرات في العالم عرفه بوسيلة أدت على الأرجح إلى القبض عليه. وأفاد موقع (ياهو نيوز) في 2018 بأن نظام اتصالات سريا معيبا على شبكة الإنترنت أدى إلى اعتقال وإعدام العشرات من عملاء (سي.آي.إيه) في إيران والصين.

 

ووجدت رويترز الموقع السري الذي قال حسيني إنه كان يتواصل من خلاله مع (سي.آي.إيه)، وهو (إيرانيان جولز دوت كوم)، في أرشيف على الإنترنت حيث لا يزال متاحا للجمهور. ثم طلبت رويترز من اثنين من المحللين الإلكترونيين المستقلين، وهما بيل ماركزاك الباحث في سيتيزن لاب بجامعة تورونتو ووزاك إدواردز من فيكتوري ميديام، التحقيق في كيفية استغلال إيران لنقاط الضعف في التكنولوجيا الخاصة بوكالة المخابرات المركزية للكشف عن حسيني وعملاء آخرين للوكالة الأمريكية. والاثنان خبراء في مجال الخصوصية والأمن الإلكتروني ولديهما خبرة في تحليل عمليات التجسس الإلكترونية. ويمثل هذا الجهد أول تحليل فني مستقل لفشل المخابرات.

 

واكتشف ماركزاك وإدواردز بسرعة أن نافذة الرسائل السرية المخبأة داخل موقع (إيرانيان جولز دوت كوم) يمكن رؤيتها بمجرد النقر بزر الفأرة الأيمن على الصفحة لإحضار الشفرة الإلكترونية. واحتوت هذه الشفرة على تحديد مهام الوظائف السرية، من بينها كلمتا "رسالة" و "إنشاء"، ليعثرا بسهولة على أدلة على أنه القدرة على التراسل قد أتيحت في الموقع. والشفرة المستخدمة لشريط البحث التي تؤدي إلى تشغيل برنامج التراسل السري تحمل اسم "كلمة المرور".

 

وخلص محللون مستقلون إلى أن موقع (إيرانيان جولز دوت كوم) بعيدا عن كونه موقعا مخصصا ومتطورا للتجسس، كان واحدا من مئات المواقع الكثيرة التي أنشأتها (سي.آي.إيه) كي تستخدمها مصادرها. وخصصت هذه المواقع البدائية لموضوعات مثل الجمال واللياقة البدنية والترفيه، ومن بينها صفحة للمعجبين بفيلم (ستار وورز) أو "حرب النجوم" وأخرى لمقدم البرنامج الحواري الأمريكي الراحل جوني كارسون.

 

وقال مسؤولان سابقان من وكالة المخابرات المركزية لرويترز إن كل موقع مزيف خُصص لجاسوس واحد فقط للحد من فرص اكتشاف الشبكة بالكامل في حالة القبض على أي عميل.

 

لكن المحللين المستقلين قالوا إن (سي.آي.إيه) جعلت تحديد تلك المواقع أمرا سهلا إذ عثر ماركزاك على أكثر من 350 موقعا إلكترونيا تحتوي على نفس نظام التراسل السري وكلها كانت لا تعمل منذ تسع سنوات على الأقل ودخلت الأرشيف. وأكد إدواردز على نتائجه ومنهجيته. وتكشف السجلات على الإنترنت، التي قاما بتحليلها، أن مساحة الاستضافة لهذه المواقع التي كانت واجهة لعمليات سرية اشتراها، وبحيز كبير، العشرات، وفي الغالب من مزودي خدمة الإنترنت أنفسهم على نفس مساحة الخادم. وكانت النتيجة أن المعرفات الرقمية أو عناوين بروتوكول الإنترنت (آي.بي) بالنسبة للعديد من هذه المواقع كانت متسلسلة مثل أرقام المنازل في نفس الشارع.

 

وقال ماركزاك "لقد فشلت وكالة المخابرات المركزية حقا في هذا الأمر". وتابع أن نظام التراسل السري "مكشوف للغاية".

 

وبالإضافة إلى ذلك، حملت بعض المواقع أسماء متشابهة بشكل لافت للنظر. فعلى سبيل المثال، بينما كان حسيني يتواصل مع (سي.آي.إيه) من خلال موقع (إيرانيان جولز دوت كوم)، أنشئ موقع باسم (إيرانيان جولز كيكس دوت كوم) لعميل آخر. ووجد المحللون أن ما لا يقل عن 20 موقعا من بين 350 أنشأتها (سي.آي.إيه) كانت عبارة عن منصات تراسل للعملاء الإيرانيين.

 

وتعني هذه العوامل في النهاية أن اكتشاف جاسوس واحد يستخدم أحد هذه المواقع كان سيسمح للمخابرات الإيرانية باكتشاف صفحات أخرى يستخدمها عملاء آخرون لوكالة المخابرات المركزية. وبمجرد تحديد هذه المواقع، كان القبض على العملاء الذين يستخدمونها أمرا بسيطا إذ كان على الإيرانيين الانتظار فقط لمعرفة من الذي ظهر. واستخدمت (سي.آي.إيه) الوسيلة نفسها مع عملائها في جميع أنحاء العالم. وقال المحللون إن أي منافس يقظ في مجال التجسس كان بإمكانه اكتشافهم جميعا.

 

وتجاوز هذا الضعف حدود إيران. ووجد المحللان أن المواقع المكتوبة بلغات مختلفة تبدو وكأنها قناة اتصال بين (سي.آي.إيه) وعملاء في 20 دولة على الأقل من بينها الصين والبرازيل وروسيا وتايلاند وغانا.

 

ورفضت المتحدثة باسم (سي.آي.إيه) التعليق على هذا النظام.

 

وتأكدت رويترز من ثلاثة من مسؤولي الأمن القومي السابقين من طبيعة فشل المواقع المتشابهة التابعة لوكالة المخابرات المركزية في العمليات المخابراتية.

 

وقال مسؤولون أمريكيون سابقون إن الوكالة لم تدرك حتى عام 2013 أن هذا النظام قد تعرض للاختراق إلا بعد أن بدأ اختفاء العديد من عملائها.

 

ومع ذلك، لم تعتبر (سي.آي.إيه) أبدا أن الشبكة آمنة بما يكفي لمصادرها المهمة. وقال ثلاثة ضباط سابقين من الوكالة إن العملاء من الدرجة الأولى يحصلون على وسائل اتصالات سرية مفصلة خصيصا لهم وصممت من البداية في مقر الوكالة في لانجلي بولاية فرجينيا لتصبح بسلاسة جزءا من حياة الجاسوس دون لفت الانتباه.

 

وقالوا إن المواقع التي أُنشئت بأعداد كبيرة كانت مخصصة لمصادر لم تخضع لفحص وتحر كاملين أو كانت لا تستطيع الحصول إلا على أسرار محدودة للدولة.

 

وقال أحد المسؤولين السابقين من الوكالة "هذا (النوع من المواقع) لشخص يُنظر إليه على أنه لا يستحق الاستثمار في تعليمه كيف يتجنب اكتشافه".

 

وامتنعت (سي.آي.إيه) عن التعليق على نظام الاتصالات السرية وفشل المخابرات.

 

* الجواسيس طبقات

 

يقول لولر، الضابط السابق في (سي.آي.إيه)، "سنذهب إلى الجحيم ونعود لحماية مصادرنا".

 

يعترف بعض ضباط المخابرات السابقين سرا بأن الوكالة تحمي جواسيسها على نطاق متدرج بناء على القيمة المتصورة للجاسوس، وهو تقييم دائم التغير لا يُوضح بشكل كامل تقريبا للمصدر (العميل).

 

ويأتي على قمة الهرم من تسميهم (سي.آي.إيه) "الأصول المجندة بالكامل والخاضعة لتدقيق شديد". ومن هؤلاء المسؤولون الحكوميون الكبار أو العلماء النوويون الذين لديهم وصول مباشر ومستمر إلى أسرار مهمة. ويقضي ضباط (سي.آي.إيه) أحيانا سنوات في محاولة تجنيد هذه الفئة.

 

وإذا نجح الضابط في التجنيد، وحصل على تصديق من المركز الرئيسي، يُوضع العميل الجديد في سجلات (سي.آي.إيه) ويحصل على راتب منتظم منها. ويحصل هؤلاء الجواسيس في بعض الأحيان على أنواع من التدريب والأدوات والأجهزة المبتكرة التي يحصل عليها أساطير هوليوود. ولو أُلقي القبض على مصدر مهم سبق أن خضع لتحر دقيق، فإن صدى الخسارة يتردد على المستويات العليا لوكالة المخابرات المركزية. ويقول ضباط سابقون إن (سي.آي.إيه) تتواصل في بعض الأحيان مع طفل أو زوجة عميل بعد سنوات من إعدامه لتقديم تعويض بملايين الدولارات ووسام تقديرا لتضحياته.

 

لكن الكثير من معلومات المخابرات والتي تجمعها (سي.آي.إيه) تأتي من جواسيس من مستوى منخفض لا يصبحون أبدا "أعضاء كاملي العضوية في قائمة الجواسيس"، حسبما قال بول بيلار، وهو مسؤول مخضرم قضى في مجتمع المخابرات الأمريكية 28 عاما، وبشكل أساسي في وكالة المخابرات المركزية، حيث عمل محللا كبيرا في الشرق الأوسط.

 

ومثل هؤلاء العملاء، وهم في بعض الأحيان مسؤولون سابقون ساخطون أو عشاق مرفوضون، ربما يكونون مجرد جزء صغير في سر أكبر تسعى الوكالة إلى كشفه.

 

وقال بيلار "تأخذ ما يتسنى لك الحصول عليه".

 

وقال ضباط سابقون في (سي.آي.إيه) إن هذه المصادر غالبا ما تتلقى حماية أقل من المصادر العالية المستوى، كما لا تتلقى رواتب منتظمة، وعادة لا يوجد التزام من الوكالة بمساعدتها لو أُلقي القبض عليها.

 

وكشفت مقابلات مع ستة من الجواسيس السابقين داخل إيران، أن (سي.آي.إيه) عرّضت الجواسيس ذوي المكانة المنخفضة لخطر بالغ. وعلم الجواسيس أنهم يعرضون حياتهم للخطر عندما يقدمون معلومات للولايات المتحدة وقالوا إن الوكالة لم تقدم أي تعهدات بشأن أمنهم. ومع ذلك ذكر الرجال مرارا في مقابلات مع رويترز أنهم يعتقدون بأن وكالة المخابرات المركزية ستبذل قصارى جهدها لحمايتهم.

 

وقال أحد هؤلاء الرجال، ويدعى محمد آقائي، إنه فكر في الذهاب لوكالة المخابرات المركزية على مدى سنوات قبل أن يقدم على ذلك.

 

وآقائي عضو قديم في الباسيج، وهي منظمة دينية شبه عسكرية قمعت بعنف مظاهرات الطلاب المؤيدة للديمقراطية في أواخر التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وقال إنه استاء من كيفية استخدام خامنئي للدين من أجل الحفاظ على السلطة. وأراد آقائي دعم المعارضين الإيرانيين الذين رآهم يتعرضون لهجمات في الشوارع، وظن أن الولايات المتحدة قد تساعد في هذا المسعى.

 

وبعد سنوات، توصل آقائي إلى خطة لمطالبة (سي.آي.إيه) بتقديم دعم مالي لمعارض إيراني معروف، هو ابن رجل دين بارز كان يعرفه. وفي عام 2011 سافر إلى إسطنبول واستقل سيارة أجرة إلى القنصلية الأمريكية وأبلغ حارس الأمن أنه يريد التحدث إلى وكالة المخابرات المركزية.

 

ويتطابق وصف آقائي للتدقيق الأولي الذي خضع له في القنصلية بشكل وثيق مع ما قاله مسؤولون أمريكيون سابقون لرويترز إنه إجراء قياسي للتعامل مع من يقوم بمثل هذه الخطوة التي أقدم عليها آقائي للتواصل مع (سي.آي.إيه).

 

وقال إنه خضع في البداية لتفتيش جرده خلاله حراس بالزي الرسمي من ملابسه، ثم نقلوه إلى غرفة أخرى. وهناك استجوبه مسؤول أمني دبلوماسي عن خلفيته ودوافعه لعدة ساعات غادر خلالها الغرفة كثيرا ليعود بمزيد من الأسئلة.

 

وأوضح الإيراني أنه التقى في النهاية بضابطة وكالة المخابرات المركزية في ذلك اليوم. لكنها لم تكن مهتمة بدعمه كمنشق. وبدلا من ذلك كانت مهتمة أكثر بعلاقات عائلة آقائي بقوات الأمن الإيرانية. وكان آقائي قد كشف أن له أقارب يعملون في وزارة المخابرات وكذلك في الحرس الثوري، وهو فرع النخبة في الجيش. وعرضت ضابطة الوكالة أن تعوضه عن رحلته ثم اقترحت عليه مهمة صغيرة لإثبات نفسه.

 

وقال آقائي إنها طلبت منه استخدام صلاته العائلية لجمع معلومات عن فيلق القدس، ذراع الحرس الثوري الخارجية، بما يشمل أسماء كبار القادة وأرقام هواتفهم وعناوينهم. وقال إنه لم يتلق أي تدريب على كيفية تجنب كشفه ولم يُمنح وسيلة سرية للاتصال بضابطة (سي.آي.إيه).

 

وطُلب منه ببساطة أن يحضر مرة أخرى في قنصلية إسطنبول بمجرد الانتهاء من مهمته، ومُنح ألفا دولار لتغطية تكاليف رحلته. وقال آقائي إنه عاد إلى تركيا بعد بضعة أشهر لتقديم المعلومات التي جمعها. وأعدته ضابطة (سي.آي.إيه) نفسها لمهمة أخرى. لكنه سرعان أُلقي القبض عليه بعد عودته إلى إيران في ديسمبر كانون الأول 2011.

 

وقال آقائي لرويترز أن محققا في وزارة المخابرات قال له بعد الاعتقال "نعلم أنك عقدت اجتماعات في القنصلية".

 

وكان يعلم أنه يخاطر، لكن ليس لأقصى حد. وقال مسؤول أمريكي سابق مطلع على الوضع إن (سي.آي.إيه) كانت تعلم قبل ذلك بعام من خلال اعتراض المكالمات الهاتفية أن عملاء إيرانيين كانوا يراقبون القنصلية ويبحثون عن خونة مثل آقائي.

 

لماذا إذن طلبت (سي.آي.إيه) إعادة آقائي إلى القنصلية ما دامت تعلم أنها تخضع للمراقبة؟.

 

قال ضابط مخضرم في (سي.آي.إيه) إن مثل هذا السيناريو ولد من حقيقة أن معظم الجواسيس المتطوعين يفشلون في النهاية في جلب معلومات مخابرات قيمة ويكونون غالبا عملاء مزدوجين.

 

وأوضح الضابط السابق أنه قبل الاجتماع مع مصدر خارج المحطة، قد يقضي ضابط (سي.آي.إيه) ساعات في التجول في المدينة للتهرب من أي متابعين له. وأضاف أنه في بعض الأحيان يعتبر ذلك إزعاجا كثيرا ومخاطرة بالنسبة لمتطوع جديد.

 

وتفيد السجلات القضائية وسجناء وتقارير إعلامية إيرانية أن آقائي أمضى ما يقرب من ست سنوات في سجن إيفين بطهران بتهمة التجسس.

 

ورفضت (سي.آسي.إيه) التعليق على ما إذا كانت تعلم أن إيرانيين مزعومين يراقبون القنصلية الأمريكية كما أنها لم تقل ما إذا كانت قابلت آقائي. ولم يتسن لرويترز التحقق بشكل مستقل من رواية آقائي بشأن اللقاءات.

 

وتحدث آقائي لرويترز من مراكز اللاجئين التي فر لها بعد الإفراج عنه، في تركيا أولا ثم في سويسرا.

 

* حيلة التأشيرة

 

ليس كل الجواسيس متطوعين. قال خمسة من مسؤولي الأمن القومي الأمريكيين السابقين إن (سي.آي.إيه) تضغط، بل وتخدع، في بعض الأحيان الإيرانيين الذين يأملون في الحصول على تأشيرات للولايات المتحدة لتقديم معلومات مخابراتية عندما يتقدمون بطلب للتأشيرة في قنصليات بالإمارات أو تركيا.

 

وبعد أن يتقدم إيراني بطلب، يُطلب من المسؤولين الدبلوماسيين فحص ما إذا كان تاريخه الوظيفي أو علاقاته الأسرية يمكن أن تجعله من ذوي القيمة. وبعد بضعة أيام، قد يتلقى مقدم الطلب مكالمة هاتفية تطلب منه العودة إلى القنصلية للإجابة على أسئلة أكثر تفصيلا.

 

ونظرا لأن ضباط (سي.آي.إيه)، الذين يتظاهرون بأنهم مسؤولون قنصليون، يجرون اجتماعات تشبه التحقيقات مع مقدم الطلب، فإنهم يرون أن ثمة احتمالا للموافقة على طلب التأشيرة، بحسب مسؤولي الأمن القومي الذين شاركوا جميعا بشكل مباشر في مثل هذه الممارسات.

 

وبحلول الوقت الذي يدرك فيه الإيراني أنه قدم معلومات إلى ضابط مخابرات، غالبا ما يكون المخبر الذي أدلى بمعلومات عن غير قصد كشف تسريبات قد تودي به إلى السجن.

 

وكان ذلك حال أحد الإيرانيين الذين تحدثوا لرويترز. وهو مسؤول إيراني متقاعد كان قد افتتح في الآونة الأخيرة وكالة سفر في أبوظبي التي سافر لها مع زوجته عام 2011 من أجل زيارة السفارة الأمريكية هناك. وكان قد فاز بقرعة برنامج الهجرة العشوائية للولايات المتحدة، المعروف باسم البطاقة الخضراء، وتصور أن ضربة الحظ الكبيرة هذه ستسمح له بتوسيع أعماله السياحية.

 

وتحمس رائد الأعمال في البداية لدعوته لسلسلة مقابلات على مدار عدة رحلات إلى أبو ظبي. وقال إنه التقى داخل السفارة وخارجها مع مسؤول قنصلي أمريكي ذكر أن اسمه ستيف. وإلى جانب عرض المساعدة في استكمال عملية فحص الهجرة، قال المسؤول الأمريكي إنه يمكن أن يساعد في تمهيد الطريق لزبائن الرجل الإيرانيين للحصول على تأشيرات دخول إلى الولايات المتحدة.

 

لكن مع مرور الوقت، قال المسؤول الإيراني إن محادثاتهما تحولت من مستقبل وكيل السفر في الولايات المتحدة إلى طلبات ستيف للحصول على معلومات حساسة عن قطاعي الطيران والدفاع في إيران.

 

وإدراكا منه للخطر المحتمل الذي يواجهه إذا اكتشفت السلطات الإيرانية ذلك، قال إنه قطع اتصاله بستيف، وهو اسم مستعار على الأرجح، وتخلّى عن حلمه في الإقامة بالولايات المتحدة. لكن مسؤولي المخابرات الإيرانيين اعتقلوه في إيران عام 2015 بعد أن علموا بطريقة أو أخرى بهذا الاتصال. وسأله المحققون الإيرانيون هل سيعمل في طهران كعميل مزدوج لمعرفة المزيد عن كيفية تجنيد (سي.آي.إيه) للجواسيس؟.

 

ورفض الرجل العرض وحُكم عليه بالسجن عشر سنوات قضى منها سبعا قبل الإفراج المبكر عنه. وقالت زوجته لرويترز "نشعر كما لو أن الجانبين تلاعبا بنا".

 

ولم يسترد الرجل أعمال السفر الخاصة به أبدا، وواجه صعوبة في العثور على عمل في إيران منذ إطلاق سراحه في عام 2021. وقال وكيل السفر السابق إن تطبيقات خدمات تأجير السيارات رفضت طلباته ليصبح سائقا، على الأرجح بسبب إدانته.

 

ولم يتسن لرويترز التحقق بشكل مستقل من تواصل الرجل الإيراني مع (ٍسي.آي.إيه). وقدم الرجل سجلات سفر ومراسلات مع السفارة لدعم قصته. واتصلت رويترز بشكل مستقل بسجين سابق آخر قال إنه التقى بوكيل السفر أثناء وجودهما في السجن نفسه. وأضاف أن رجل الأعمال في ذلك الوقت قدم له رواية مماثلة لمحاولة تجنيد وكالة المخابرات المركزية له.

 

وامتنعت (سي.آي.إيه) عن التعليق على قضية وكيل السفر. ومع ذلك، أكد خمسة من مسؤولي الأمن القومي الأمريكيين السابقين تفاصيل عن كيفية استخدام حيلة التأشيرة لجمع معلومات مخابرات عن إيران.

 

* متروك في البرد

 

عندما التقى المهندس حسيني مع ضابط من (سي.آي.إيه) عام 2009، كان مستعدا لأهم اجتماع له حتى ذلك الوقت. فقد أمضى شهورا في جمع بيانات سرية عن نقاط الضعف في شبكة الكهرباء الوطنية الإيرانية. وأوضح أنه ركب دراجته النارية عبر الصحراء لجمع صور وإحداثيات بنظام تحديد المواقع العالمي (جي.بي.إس) للأعمدة والمحطات الكهربائية الرئيسية التي يعتقد أنه يمكن أن تستهدفها الصواريخ أو المخربون للتسبب في انقطاع التيار الكهربائي على نطاق واسع.

 

لكن عندما وصل إلى ماليزيا، قابله عميل وحيد لوكالة المخابرات المركزية. وقال له الضابط "الأمور تغيرت".

 

قال حسيني إن الضابط أبلغه بأن (سي.آي.إيه) لم تعد مهتمة بالمعلومات التي جمعها عن نقاط الضعف في الشبكة الكهربائية.

 

وكان حسيني مندهشا. فقد تحمل مثل هذه المخاطر لتسليمها لهم، وقال "لكنهم الآن ليسوا مهتمين".

 

وأضاف أنه للمضي قدما أراد الضابط منه أن يتعمق أكثر في الخطط الخاصة بمنشأة فوردو النووية، حيث قال حسيني إن شركته فازت في الآونة الأخيرة بعقد هناك.

 

وكانت هذه المحطة، الواقعة داخل جبل قرب مدينة قم المقدسة عند الشيعة، مخفية عن المفتشين النوويين التابعين للأمم المتحدة إلى أن أكدت إيران وجودها عام 2009. وفي ذلك الوقت استخدمت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما الكشف عن وجود الموقع لمحاولة كسب النفوذ إذ بدأت محادثات دبلوماسية تهدف إلى الحد من طموحات إيران النووية.

 

وقال حسيني إن (سي.آي.إيه) طلبت مزيدا من المعلومات الدقيقة عن فوردو التي رأى أن واشنطن تريدها لمساعدتها في المفاوضات. وفسر حسيني تركيز المتعاملين معه على أنه يعكس رغبة إدارة أوباما الجديدة في التحرك نحو حل دبلوماسي مع إيران.

 

ويقول ضباط سابقون في وكالة المخابرات المركزية إن التحولات في أولويات المخابرات أمر شائع عندما يتولى رئيس جديد السلطة. ومع ذلك، قالوا إن إعادة توجيه المخبرين تتم دائما تقريبا لأسباب تكتيكية وعادية لا تُشرح بالكامل للجاسوس.

 

وقال حسيني إنه استمر في تقديم معلومات إلى وكالة المخابرات المركزية لعام آخر. وفي مرحلة ما، أثار المتعامل معه في الوكالة لديه فكرة لقاء عائلته، وهو عرض كان يأمل حسيني أن يبشر بإمكان إعادة التوطين في نهاية المطاف في الولايات المتحدة.

 

ومع ذلك، فإن إعادة التوطين هي مكافأة نادرة. فقد قال ثلاثة ضباط مخابرات سابقين إن واشنطن تخصص لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية نحو 100 تأشيرة فقط في العام لتقديمها حافزا لجواسيسها في جميع أنحاء العالم.

 

وقال بيلار، محلل المخابرات السابق في الوكالة، "هذا ينطوي على موارد هائلة وتخطيط عملياتي وسيخصص لنجم نجوم المصادر".

 

وأمضى حسيني ما يقرب من عشر سنوات في سجن إيفين في طهران، وهو سجن معروف بإيواء السجناء السياسيين والجواسيس المتهمين. ويواجه كثيرون منهم التعذيب والإعدام، بحسب معتقلين سابقين وجماعات حقوقية.

 

وقال حسيني إن قضاء ما يقرب من عقد من الزمان هناك كان له أثره. وأوضح أن سنوات الحبس والتعذيب المطول، الضرب والصدمات الكهربائية والعزل في غرف مضاءة على مدار الساعة، أضرت بقدرته على التواصل حتى مع أسرته.

 

وقال "عندما يسألونني سؤالا، أشعر وكأنني عدت إلى غرفة الاستجواب".

 

ولم ترد الحكومة الإيرانية على طلبات للتعليق على معاملة المعتقلين.

 

وبعد مرور ثلاث سنوات حتى الآن على خروجه من السجن فقد حسيني، البالغ من العمر الآن 47 عاما، أسلوب حياته الثري والعديد من أصدقائه الذين يخشى أنهم تعاونوا مع قوات الأمن الإيرانية في محاكمته.

 

ومن بين الجواسيس الستة السابقين الذين أجرت رويترز مقابلات معهم، لا يزال أربعة في إيران بعد إطلاق سراحهم من السجن، ويعيش اثنان آخران لاجئين، أحدهما في تركيا والآخر في سويسرا. ويقول الجميع إنهم لم يتمكنوا من الحصول على مساعدة من الولايات المتحدة وهم يكافحون لإعادة بناء حياتهم.

 

ولم يتمكن معظمهم من إيجاد وسيلة لطلب المساعدة.

 

قال حسيني إن (سي.آي.إيه) زودته بوسيلتين للحصول على المساعدة إذا واجه مشكلة. وكانت إحداهما الاتصال برقم سري في الولايات المتحدة من مكان ما خارج إيران، وإعطاء رمز مرور إلى عامل الهاتف. والثاني هو الاتصال بضابط أمن إقليمي في قنصلية في أي مكان في العالم وطلب المساعدة. وتأكدت رويترز من أن هاتين وسيلتين تقدمهما وكالة المخابرات المركزية للجواسيس لالتماس المساعدة.

 

وبحلول الوقت الذي غادر فيه حسيني السجن عام 2019، لم يعد يتذكر الرقم السري. ويخشى تداعيات ذلك إذا اكتشفت المخابرات الإيرانية أنه دخل إلى قنصلية أمريكية لمعاودة التواصل بعد إدانته بالتجسس.

 

وقال الجواسيس الستة السابقون الذين أجرت رويترز مقابلات معهم إنهم كانوا يأملون، بالنظر إلى تضحياتهم، أن تجد الحكومة الأمريكية وسيلة للاتصال بهم وتقديم المساعدة في بناء حياة جديدة في الولايات المتحدة أو بلد آخر. وما زالوا ينتظرون ذلك بعد سنوات من إطلاق سراحهم.

 

لكن مسؤولين سابقين في المخابرات الأمريكية يقولون إن (سي.آي.إيه) ترى غالبا أن هناك خطرا هائلا ولا إيجابيات تذكر في معاودة الاتصال بجاسوس اعتُقل في إيران.

 

ويوضح المسؤولون أن هؤلاء المعتقلين محظوظون بما فيه الكفاية لنجاتهم من الإعدام، ويمكن أن يخرجوا من السجن كعملاء مزدوجين. أما من لا يعملون كذلك، فإن السلطات الإيرانية تراقبهم عن كثب على الأرجح بحثا عن أي أخطاء محتملة.

 

وقال ضابط مخابرات كبير سابق شارك في تحرك وكالة المخابرات المركزية للبحث على حل وسط لجواسيسها في إيران "علينا أن نسأل، ما هي أفضل وسيلة لإبقاء هذا الرجل على قيد الحياة، أحيانا تكون أفضل إجابة هي تركهم وشأنهم. في نهاية المطاف، علينا أن نأمل أن يكونوا هم وعائلاتهم سعداء لكونهم على قيد الحياة".

 

وينتاب حسيني شعور مختلف. فهو الآن يعيل أسرته بأقل من 250 دولارا في الشهر، أي عُشر ما كان يحصل عليه فيما مضى، يجمعها من العمل بدوام جزئي في دعم تكنولوجيا المعلومات. وقال حسيني إن بعض الشركات الهندسية وظفته لكنها طردته بعد أيام، بمجرد الانتهاء من معرفة تاريخه.

 

وبعد أن كان معتدا برأيه للغاية، أصبح الآن حريصا على قصر آرائه على محيط الأصدقاء خوفا من الإبلاغ عنه. ويستيقظ في أوقات كثيرة في الصباح والقلق يتملكه من احتمال اعتقاله مجددا.

 

ويقول "ليس بوسعي تصور أي مستقبل".


التعليقات