كتاب من اليمن .. الهادوية بين النظرية السياسية والعقيدة الإلهية
- محمد الحمامصي الثلاثاء, 11 سبتمبر, 2018 - 06:24 مساءً
كتاب من اليمن .. الهادوية بين النظرية السياسية والعقيدة الإلهية

[ الكتاب من المراجع المهمة بالنسبة للهادوية ]

مَنْ يتَتَبَّعْ مَسِيرة الهادوية التارِيخِية يَجِد أنها كَانَتْ قيْدًا فِكْرِيًا وَسِيَاسِيًا وَاجْتمَاعيًا فكرة تقديس الشَّخصيات ليْست مِن الثَّقافة الأصِيلة المتوارثة في الحَضَارَات اليَمَنِيَّة القَدِيمَة

يحلل هذا الكتاب "الهادوية بين النظرية السياسية والعقيدة الإلهية" للباحث اليمني ثابت الأحمدي التراث الفقهِي والسِّياسي في اليمن بدايةً من قُدُومِ الإمَام الهَادي يَحْيى بن الحُسَيْنِ إلى اليَمَنِ أواخرَ القَرْنِ الثالث الهجري من الحجاز وما تلاه من صِراعاتٍ مئات السنين، وصولًا إلى القَرْن الحادي والعشرين، وذلك كجزء مِن التَاريخ السيَاسِي وَالاجْتِمَاعِي لليمن مؤكدا أنه منذ جاء الهادي واليمن تَعيْشُ حَالَة مِن التّيْه بِلا شَك، حيث أَسسَ لنظرية جديدة في الحكْم، عازيا إياهَا للإمَامِ زيْد بنِ عَلي، مَعَ أَنهَا لَا عَلاقَةَ لَهَا ــ مِن حيثُ مَقَاصِدُهَا العَامَّة ــ بِالإِمَامِ زيْد أَبَدًا.

مؤكدا أن الزيدِية مَنْظُوْمَة فِكْرية مُتَكَامِلة، نَشَأَتْ وَتَرَبتْ بين أحْضَانِ العَقْلانيَّةِ المُعْتَزِلة، وَأَرْوِقَةِ الْمَدَرِاسِ الْكَلَامِيَّةِ الَّتِيْ مَثلَتْ النوَاةَ الْأُوْلَى لِمَدَارِسِ الْفَلْسَفَةِ الإسْلاميَّة بَعْدَ ذَلِك، كَمَا كَانَتْ قَرِيْبَةً كَثِيْرًا إِلى مَذَاهِبِ أَهْلِ السُّنَّةِ الأرْبَعَةِ، وَخَاصَّةً الإمَام أبي حَنِيْفَةَ. أمَّا مَا جَاء به الإمَام الهَادي فَلا يَعْدُو أنْ يَكُونَ نَظَرِيَّة سيَاسِيَّة لِلحُكْمِ، كل مَا ينقصها النظَر السيَاسِي!

وأوضح الأحمدي فكرة وعوامل النشوء النظرية الهادوية مشيرا إلى أنها فكرة سِيَاسِية/ دينية متداخِلة. جاء مؤسسُها الأول إلى اليَمَنِ نهايةَ القَرْنِ الثالث الهجري، قادمًا من الرس، للصَلح بين قبيلتين متصارعتين ومختلفتين في قضايا اجتماعية يومها، حسبما تذكر بعضُ المصَادر. والواقع أنه جاء ضِمن خُطة مَدروسةٍ مع بعض أبناء أعْمَامه؛ لتـأسيسِ دولةٍ جديدةٍ بفكر جَديد، بعيدًا عن مركز الخِلافةِ الإسْلاميَّة في بغداد، فقد هاجر بعضٌ منهم إلى بِلاد الجيل، وآخرون إلى الديلم، كما ذهب الهَادي نفسُه إلى صَعْدَة من بِلاد اليَمن، ذاتِ التضاريسِ الوعرة، والتي يصعبُ على العبَّاسِيين الوصول إليها لقمعه في حَال استطاع أن يجمعَ حولَه بعضًا من الأتْباع. ومن هنا اكتسَب لقب الإمام، كما اكتسبه أولادُه وحفدتُه من بعده، وتوارثوها جيْلًا عن جيل وإلى اليوم، نتيجة للجهْل المستشري في أوسَاط هَذِه الهضبة يومذاك ولا يزال، ومن ثم يصطبغ هَذا المذهب صِبغة النَّظَرِيَّة السِّياسيَّة! مع أن فكرة تقديس الشَّخصيات ليْست مِن الثَّقافة الأصِيلة المتوارثة في الحَضَارَات اليَمَنِيَّة القَدِيمَة أبدًا، أو حتى في الثقافة العَربية؛ إنما فكرة مستوردة من الثقافة الفارسيَّة وبلاد الشَّرق الأقصى، ومصر، تداخلت مع الثقافة العَربيَّة مع بداية نَشْأة التشيعِ في العَصر الوسيط فما بعده.

الهَادَوِيَّة فشلتْ منذُ بدايتها الأولى أن تكونَ أداةً لنظامٍ سِيَاسِيٍ ناجحٍ ومتوازن. فهل من العقلِ والمنطقِ أن نستعيدَها اليوم، باعتبارِها أداةً سيَاسِيَّةً لنحلَّ بها مَشاكلَ العَصر؟! الأمرُ يبدو سُخفًا!

ورأى في كتابه الصادر عن مؤسسة أروقة للنشر بالتعاون مع وزارة الثقافة اليمنية أن من يتَتَبع أغوار وفجاج هَذِه النَّظَريَّة الجديدة والطارئة لا على اليَمنِ فحسب؛ بل على المنطقة العَربيَّةِ كلها، يلمح أن أمشَاجَها الثقافية الأولى قد تَسربتْ من خَارج حُدود المنطقة إبَّان الانفتاح الحضَاري الجَديد الذي حصل بين الثقافتين الإسْلاميَّة والفارسية، في إطار التأثر والتأثير بين المجتمعات؛ لاسِيَّما المجتمعات المتجاورة جغرافيًا، كما هو الشَّأن بين العَربِ والفُرس.

وقد كانت الخلفية الثقافية لهذه النظرية فارسية الصُّنع، حيثُ النظرة المُقَدسَة للحاكم "الشاهنشاة ــ ملك الملوك" حد السجود له، التي فاجأت الإسكندر المقدوني حين غزا بِلاد الشَّرق، فتفاجأ بطقوس المُلك الموجودة فيها، من تبجيل للملك والسُّجود له. من رهبة البلاط الملكي أو الأميري. من أُبهة الأروقة، حتى عمد لنقل بعض هَذِه الطقوس والمراسيم بما في ذلك التاج نفسه الذي كان غريبًا عليهم، إضافة إلى السُّجود وتأليْه الحاكم، الأمر الذي جَعل المقدونيين يرفضون بعض هَذِه المراسيم الجديدة الوافدة عليهم!

وأشار الأحمدي إلى أن مَنْ يتَتَبَّعْ مَسِيرة الهادوية التارِيخِية يَجِد أنها كَانَتْ قيْدًا فِكْرِيًا وَسِيَاسِيًا وَاجْتمَاعيًا، ليْسَ عَلى مَنْ لم يَعْتَنِقْ فِكْرَهَا، وَحُكِمَ بِهَا كَرْهًا فَحَسْب؛ بَلْ عَلى أَبْنَائها في المَقَامِ الأوَّل، إذْ حَجَرَت وَاسِعًا فِي الاجْتِهَاد، وَجَعَلتْ مِن نَفْسِهَا دَائِرَةً مُغْلَقَةً، لَا تَقْبَلُ الانْتِقَادَ أَو المُرَاجَعَة، حَتَّى بَدَتْ صَنَمًا يُعْبَد، إِلى حَدِّ قَوْلِ الإمَام عَبْدِالله بنِ حَمْزَة، والَّذي نَعْتَبِرُه المُؤسس الثانِي لِلنظَرِيةِ بَعْدَ الهَادِي: إنَّنَا نَهَابُ نُصُوصَ الإمَام الهَادي كَمَا نَهابُ نُصُوصَ القُرْآنِ الكَريْمِ!

وأضاف أنه لَو كَانَتْ هَذِه النظَرِية تَحْمِلُ قَاعِدَةً فِكْرِية بِبُعْدٍ وَطَنِي، إنْسَانِي، حَضَارِي، أو رُشْدًا سِيَاسِيًّا ــ كما يَدَّعِيْ أَصْحَابُها ــ لَكَانَ الإمَام الهَادي قَد اسْتعَادَ دَوْرَةَ التارِيْخ الحَضَارِية مِنْ جَدِيْدٍ، وأسسَ لإمْبراطُوريَّةٍ، لهَا مِن الرَّصِيْدِ الحَضَارِي والتَّاريْخِي مَا يُؤَهِّلُها للمُنَافَسَة العَالميَّة، وبِكلِّ جَدَارة؛ لاسِيمَا في شَخْصِيَّةِ الهَادي مِن "الكاريزما" ومن التَّجَلُّدِ وَالصَّبْرِ والإصْرارِ مَا يعينُه عَلى ذَلك، كَمَا في الشَّعب مِنْ رُوحِ التوثب وَالتَّطَلعِ نَحْوَ الْمَجْدِ الآفِلِ حِيْنَهَا مَا فِيْه. لَيْسَ الهَادي ــ فَقَط ــ مِنْ رِجَالَاتِ هَذِه الفِكرَةِ وُروَّادِهَا ِمّمَن قَيَّدَتْـهُم النَّظَرِيَّةُ، وكَانَتْ بِمَثَابةِ السِّوارِ أو القِلادةِ التي أحَاطَتْ بالعُنُق؛ بَلْ ثَمَّةَ رِجَالٌ كِبَارٌ آخَرُونَ في سِلْسِلَة الأَئِمَّةِ، كَانَتْ لَـهُم سِجْنًا وطَوقًا لم يَسْتطيْعُوا تَجَاوُزَه، كالإِمَامِ عَبْدِاللهِ بن حَمْزة، والإِمَام يحيى بن حَمْزة، وإنْ كَانَ الأَخِيْرُ قَدْ حَاوَل التَّمَرُّدَ عَلى جُمُودِ النَّظَرِيَّة وَضَيْقِ أُفُقِهَا، وَكَذَا الإمَام المتَوَكِّلِ عَلى الله إسْماعِيْل بنِ الْقَاسِم، الَّذيْ تَوَحَّدَت اليَمَن كُلُّها في عَهدِه، ثُمَّ المهْدِي مُحمَّد، وَالأخِيْرَانِ مِنَ الْقَاسِمِيين؛ بَلْ حَتَّى الإمَام أحْمَد حَميْد الدِّيْن، بِدَهَائِه السِّيَاسِي وشَخْصِيَّتِه المهِيَبَةِ. كُلُّ هَؤلاء اجْتمَعَتْ فِيْهِم مِن صِفَاتِ القِيَادةِ والدَّهاءِ السِّيَاسِي مَا لم يَحْظَ بِه غَيْرُهُم؛ لكنَّهُم ظَلُّوا حَبْيسِي النَّظَرِيَّة التيْ هِيَ ــ فِيْ الْوَاقِعِ ــ أَقَلُّ شَأنًا مِن الزَّمَانِ والمَكَانِ، كَمَا أنَّهَا دُوْنَ الطُّمُوحِ لِشَعْبٍ عَرِيْقٍ، وحَضَارَةٍ ضَارِبةٍ بِجُذُورِهَا في أعْمَاقِ التَّاريخ.

ورأى أن الدَّولتَين الصُّلَيْحِية ثُمَّ الرسُولِية كانتا نمُوذَجًا مُشْرِقًا للدَّولةِ النَّاجِحَة، قَدَّمَتا مِن الإنْجَازاتِ خِلالَ فَتْرَتَيْنِ وَجِيْزَتَيْنِ مَا لم تُقَدمْه الإِمَامَة خِلالَ فَتَرَاتِها كَامِلةً عَلى طُولِهَا. كَمَا أنَّهُما نَالا مِنَ الرِّضَا الشَّعْبي مَا لَمْ تَنَلْه كُلُّ فَتَرَاتِ الإِمَامَة مُجْتَمِعَة، وَذَلكَ لِعَدَمِ ارتْكازِهِمَا عَلى نَظَرِيَّة عَقَائِدِيَّةٍ صَلْدَةٍ، كَمَا ارْتَكَزَت الإِمَامَة عَلى النَّظَرِيَّة الهَادَويَّة؛ لِأنَّ النظَريات العَقَائِدِيةَ لا تَعِيْشُ إِلا بِالقَمْعِ وَالبَطْشِ، وَلا تَكُونُ لهَا حَيَاةٌ إِلا مَا دَامَتْ مُمْسِكَةً بِسَوْطِ القُوَّة. مَعَ الإشَارَةِ هُنَا إِلى إسْمَاعِيْلِيَّةِ الصُّلَيْحِييْن. وَالإِسْمَاعِيْلِيَّةُ "ابْنَةُ عَم" الهَادَويَّة، إِنْ جَازَ التَّعْبِيْر؛ فَكِلْتَاهُمَا شِيْعِيَّتَان، وقَدْ يُشْكِلُ التَّفْرِيْقُ بَيْنَهُمَا لَدَى الْبَعْض؛ إِلا أَنَّ مَنْ يُلِم وَإنْ بِالْحَدِّ الأَدْنَى مِن أَدَبِيَّاتِ الفِكر الإِسْمَاعِيْلِيْ ــ تَنْظِيْرًا وَمُمَارَسَةً ــ يَجِدْ فَرْقًا وَاضِحًا بَيْنَهُمَا، فَفِيْ النَّظَرِيَّة الإِسْمَاعِيْلِيَّةِ مِن الْـمـُرُوْنَةِ الدِّيْنِيَّةِ وَالانْفِتَاحِ السِّيَاسِي مَا لا يُوْجَدُ لَدَى النظَرِية الهَادَويَّة، لأَنَّ آل البَيْتِ بِالنَّسْبَةِ لِلإسْمَاعِيْلِيَّةِ أَهْلُ الكِسَاءِ الْخَمْسَةِ فَقَطْ، وَلأنَّ آل البَيْتِ سَوَاسِيَّةٌ عَلى الصَّعِيْدِ السِّيَاسِي مَعَ أَيِّ مُوَاطِنٍ آخَر، فَلا امْتِيَازَاتٌ لِأَيٍّ مِنْهُم عَلَى الآخَرِيْن. ثُمَّ إِنَّ الْمُمَارَسَةَ العَمَلِيَّةَ أَثْبَتَتْ تَقَدُّمًا مَلْمُوْسًا لَدَيْهِمْ، فَكَانُوا أَشْبَهَ بِالْجَمَاعَةِ الدُّسْتُورِيَّةِ ــ الاشْتِرَاكِيَّةِ مِنْ وَقْتٍ مُبَكِّر.

وأكد الأحمدي أن مَا يَزِيْدُ عَلى ألفٍ ومِئَتيْ عَامٍ لا يَكادُ المُتَابعُ يَجِدُ شَيْئا يُذكَرُ ذَا بَال، كَإِنْجَازٍ تَارِيْخِي أَو حَضَارِي يَشْفَعُ لِهَذِه النظَرِية وَأبْنَائِها لَدَى الشَّعْب، مَهْمَا حَاوَلَ البَاحِثُ أَنْ يَتَلَمَّسَ ذَلِك، وَلَمْ يَكُن غَيْرُ الدَّمِ مَشْهَدًا لَهَا، إِذَا مَا اسْتَثْنَيْنَا فَتَراتٍ مَحْدُودةٍ مِنْها، تَبَازَغَ ــ وعَلى خَجَلٍ ــ بَيْنَ الحِينِ والآخرِ أعْلامٌ كبَارٌ يَحِقُّ لنا جَميْعًا أن نُفاخِرَ بهم، كَنَشْوانِ بن سَعِيْدِ الحِمْيَرِي، وابنِ الأمِيْرِ الصَّنْعائِيْ، والإِمَامِ الشَّوكاني والمقبلي، وأَخِيرًا الزُّبيري، وَكُلُّ هَؤلاء شَبُّوا عَنْ طَوْقِ النَّظَرِيَّةِ، مُتَجَاوِزِيْنَ تَهْوِيْمَاتِها وَجُمُودَهَا.

أمَّا لِسَان اليَمَن الْحَسَنُ بن أَحْمَد الهَمدَانِي فَلَا يُمْكِنُ أن نَعْتَبِرَه إِلَّا مِنْ صِنَاعَةِ مَدرسَة صَنْعَاءَ، قَبْلَ أَنْ يَتَحَكَّمَ فِيْهَا الْأَئِمَّةُ، إِضَافَةً إِلَى حَوَاضِرِ العِلْمِ التِيْ جَالَ فِيْهَا كَثِيْرًا، سَوَاء بِصُحْبَةِ وَالِدِهِ صَغِيْرًا، أَمْ مُنْفَرِدًا بَعْدَ ذَلِك، كَصَنْعَاءَ ــ مَسْقَط رَأْسِه ، ثُمَّ بَغْدَاد وَالبَصْرَة وَمَكَّة وَالْمَدِيْنَة، وَمَا اسْتَخْلَصَه مِنْ تَجَاربِه وَأَسْفَارِهِ الْكَثِيْرَةِ، فَكَانَ ــ بِحَقٍ ــ فَلْتَةً مِنْ فَلَتَاتِ التَّارِيْخِ، وَمَعَ هَذَا، فَقَدْ نَكَّلَ بِهِ الأئمَّة وَسَجَنُوْه أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، وَأَذّاقُوْهُ الْوَيْلَات، لَا لِشَيْءٍ إِلَّا لِاعْتِزَازِهِ بِيَمَنِيَّتِهِ، وِبِتَارِيْخِهِ الْحَضَارِي الْقَدِيْمِ، وهَذا مَا لَا يَرُوْقُ لَهُم قَدِيْمًا وَحَدِيْثًا!

وأوضح الأحمدي أن النظرية الهَادَوية مُنذ العَام 284هـ هِي ذاتُها اليومَ، لم تتبدلْ قيدَ أنملةٍ، على الرغمِ من كل التبدُّلاتِ التي لا توصف، والتغيُّراتِ التي لا تُحصى، غير قابلة للتطور من داخلِ كتلتها المُصْمتة والمغلقةِ على نفسِها. في القَرْن الثالثِ الهجري قبلَ أكثر من ألف عامٍ ونيف، قَال الإمَامُ الهَادي، المُنَظِّر الأول للجَمَاعَة:

الطعنُ أحلى عندنا من سلــوة

كر الجوامس حين طال ظماها

والروس تُحصدُ بالسَيوفِ ألذ من

بيضاء ناعمةٍ تجر رداها

وفي العَام 1962، وبما يزيد على ألفِ عام، وقف آخرُ عناقيدِ هَذِه النَّظَريَّةِ في الجامعِ خطيبًا، بعد أن حمد الله وأثنى، قائلًا: إذا كانَ أبي يفصلُ الرأسَ عن الجسَدِ، فإني سَأقطعُ الجسدَ نصفين!!. فالقتلُ هو القتلُ، مُسلسلُه لا ينقطع، والهدمُ هو الهدمُ، فعله لا ينقشِع، والسِّجنُ هو السِّجنُ ثَقَافَة وفكرًا وسُلوكًا، ومَن شابَه أباه فما ظلم!

وقال الأحمدي إن النظرية الهادوية عاشتْ طويلًا، ولكن عيشة الأشَل، بين الحياةِ والموت، تصارعُ الأشْباح.. القتلُ فيها دين، والسِّجن عقيدة، والهدمُ ثقافة، والتخريبُ عبادة.. وهاتوا لي إمامًا واحدًا ــ وهم كُثر ــ خلا حُكمُه من قتلٍ وسجنٍ وتخريبٍ وهدْم. هيهات.. هيهات، فدون ذلك خرطُ القتاد! لقد بدتْ متصلبةً خلالَ ما يزيد على ألفِ عام، وعجزتْ عن تجديدِ نفسِها من الداخلِ، فتبدَّدتْ، لأنَّ من لم يتجددْ يتبدّدْ. ليسَ ذلك فحسب؛ بلْ لقد عجزتْ عن إنقاذِ نفسِها في الهلاك الأخير، مطلع ستينيَّاتِ القَرْنِ الماضي، فخرجتْ خروج أم عمرو، وهِي دولةٌ قائمة، فهل من المعقولِ أن تعود من أجْداثها بعد طول موات؟! ربما انطبقَ عَليْها ما أشَار إليه الإمَامُ أحمد نفسُه في إحدى قَصائده الزرنوقيَّة:

وكم أحمقٍ في النَّاسِ لا يعرفُ الهدى

ولا الدينَ إلا بالفناءِ المُحَتَّم!

ولفت الأحمدي أن الآثاريين اكتشفوا مباضعَ الأطبَّاء وسكاكينَهم التي كانوا يفتحون بها الجماجمَ، أو يَشقُّون بها الصُّدور، لإجراء العَملياتِ الطبيَّةِ في العُهودِ الفرعونيَّة في مصر، قبل آلاف السِّنين، إلا أن هَذِه الأدواتِ اليَومَ قد أصبحتْ رهنَ المتاحفِ لإلقاءِ نظرةٍ عابرةٍ عَليْها فقط، لا رهنِ أدراجِ الأطبَّاء اليوم، مع أنَّ الإنسانَ هو الإنسَانُ، والجمجمةُ هِيَ ذاتُها الجمجمةُ أو الصَّدر؛ لكن فلسفةَ الحياةِ تقررُ أن لكلِّ زمنٍ أدواتَه الخاصَّة به. وبقياسٍ بسيط وسهلٍ جدًا، فإنَّ أيَّ عاقلٍ لا يمكنُ أن يقبلَ أن تُجرى له عمليَّةٌ جراحيَّةٌ بتلك الأدواتِ القَديمة؛ بل إنَّ مجردَ طرحِ ذلك عليْه من السَّخافةِ بمكان! ذاتُ الشَّأنِ اليَومَ مع النَّظَريَّةِ الهَادَوِيَّة التي فشلتْ منذُ بدايتها الأولى أن تكونَ أداةً لنظامٍ سِيَاسِيٍ ناجحٍ ومتوازن. فهل من العقلِ والمنطقِ أن نستعيدَها اليوم، باعتبارِها أداةً سيَاسِيَّةً لنحلَّ بها مَشاكلَ العَصر؟! الأمرُ يبدو سُخفًا!

يمكن تنزيل الكتاب على الرابط هنا


التعليقات