سيطرة دولة بني رسول على مكة.. تاريخُ الدولةِ الرسولية
- ساسة بوست السبت, 19 ديسمبر, 2020 - 12:06 صباحاً
سيطرة دولة بني رسول على مكة.. تاريخُ الدولةِ الرسولية

[ جانب من عمران الدولة الرسولية ]

عاش اليمن على طول التأريخ بحروب وصراعات دائمة، وهي سلطوية ودينية وقبلية، ولم يشهد اليمن إستقراراً كاملاً إلا في لحظاتٍ قصيرة كإستراحة محاربٍ ما يلبثُ أن يعودَ إلى الحلبة.

 

ويعيشُ اليمن بؤساً شديداً نتيجة الصراعات السياسية التي يعيشها الآن ما بين جماعة الحوثي والشرعية اليمنية التي تحارب من أجل إستعادة أراضيها التي تقبع تحت سلطة الأول، وهكذا تفرق اليمنييون وأنتهكت الدماء والأعراض.

 

وكانت اليمن في عصرها القديمة مقسمة إما إلى ممالك تعيش المرحلة ذاتها، أو إلى تعاقب ممكلةٍ على أنقاض أخرى حتى جاءت مملكة حمير التي وحدت اليمنيين وتوسعت كثيراً وحكمت الى ما قبل الإسلام، واستمر حكمها قرابة 635 سنة تخللها العديد من الاضطرابات حتى تقلصت حجم مملكتهم بشكل كبير، وذلك بعد سيطرة الأحباش الذين استطاعوا بمساعدة قبائل يمنية جنوبية من إسقاطها، وبسطوا سيطرتهم على مساحات واسعة من اليمن، وتمكن اليمنيون فيما بعد من إخراج الأحباش من بلادهم، وهنا بدأ الإسلام بالدخول وانتشر بشكل سريع وواسع في البلاد كاملة.

 

أما بعد دخول الإسلام فقد تعاقب على حكم اليمن الكثير من الدويلات، إبتداءً بدولة النبي صلى الله عليه وسلم وحكم الخلفاء الراشدين ووصولاً إلى الأموية والعباسية والأيوبية ولم يستقر الحكم بشكلٍ قاطعٍ وسهل لأيٍ من هذه الدويلات لما كانت تلاقيه من معارضة شرسة من أبناء القبائل اليمنية لأسباب يطول شرحها.

 

لكن اللافت في الأمر لمن يقرأ التأريخ ويقلب صفحاته مدققاً وواقفاً على جميع مراحلة يجد أن اليمن شهدت إستقراراً نسبياً في عهد الدولة الرسولية التي أتفق المؤرخون على أنها من أفضل العصور في اليمن، حيث شهدت البلاد خلالها إزدهاراً واسعاً في العلوم والمعرفة والطب والتجارة، ووصلت مناطق سيطرة الرسوليين من ظفار سلطنة عمان مروراً بالمهرة وحضرموت وعدن، وحتى مكة المكرمة شمالاً.

 

ولم يكن بالأمر السهل قيام دولة بني رسول سيما أن الصراعات في اليمن على أشدها وخصوم بني رسول كُثُر، الرسوليين كانوا على قدرٍ كبيرٍ من الذكاء والإرادة والعزم واستطاعوا تجاوز عقبات خطيرة وقفت أمام تأسيس الدولة وتثبيت دعمائها لتستمر على طول قرنين وثلاثة عقود من الزمن.

 

وخلال عصور حكم الرسوليين أسسوا نظام قضاء مستقل ومركزية عليا في القرار، وتنظمت الأمور المدنية للناس بشكل غير مسبوق ما جعل الدولة تحظى بإحترام وتقدير الدول الاُخرى التي قامت بإرسال سفراء وممثلين عنها لدى ملوك بني رسول.

 

تلاشي الدولة الأيوبية وصعود ملوك دولة بني رسول :

 

وفي سنة 568هـ/ 1172مـ، أرسل صلاح الدين الأيوبي أولى حملاته إلى اليمن تحت قيادة أخيه الملك توران شاه، في أكثر من ثلاثة آلاف مقاتل وفارس، فكان النصر حليفها، فقتلوا ابن مهدي وأسروا أخوته وأولادهم ومن ثم قتلوهم عن آخرهم وأزالوا حكمهم نهائيًّا من زبيد، واستمر تقدم الأيوبيين حتى وصلوا إلى تعز وعدن وأبادوا آل زريع، ودخلوا بعدها صنعاء بعدما فر منها آل حاتم، واستمر تقدمهم حتى صار غالب اليمن تحت سيطرتهم بالكامل.

 

وفي هذا الوقت كان صلاح الدين قد ضم أغلب مدائن الشام ومصر تحت سلطانه، فأراد توران شاه الخروج من اليمن، فأرسل إلى أخيه يرجوه السماح له بالعودة، ولكنه رفض ذلك، وحاول ترغيبه في المقام باليمن، ولكن توران شاه اشتاق للشام ومصر وأرسل لأخيه بيتين من الشعر يقول فيهما:

وإذا أراد الله سوءًا بامرئ … وأراد أن يحييه غير سعيد

أغراه بالترحال عن مصر بلا … سبب وأسكنه بأرض زبيد

 

فتأكد الناصر صلاح الدين الأيوبي أن أخاه لم يعد يطيق المكوث في اليمن فسمح له بالعودة وأرسل عُمالاً من رجاله إلى اليمن يأتونه بخراجها ويدعون للدولة الأيوبية في خطبة الجمعة حتى توفي صلاح الدين عام 576 للهجرة، وهنا اختلف عماله في اليمن واستقل كل عاملٍ منهم بمنطقته وتنازعوا حتى حدثت معارك طاحنة بينهم إلى أن جاء السلطان سيف الإسلام طغتكين إلى اليمن بحملة عسكرية جديدة، تمكن فيها من إعادة جميع المناطق إلى حكم الأيوبيين مرة أخرى عام 579 هجرية.

 

استمرت دولة الأيوبين تحكم سيطرتها على اليمن بتعاقب سلاطينها وأمراءها الذين ما كانوا يسيطرون على منطقة إلى وتسقط اخرى في أيدي غيرهم من الطامعين إلى الحكم والتوسع حتى ضعف الدولة الأيوبية وشارفت على الفناء بالوقت الذي كانت الرسوليين يستعدون لإقامة دولتهم.

 

نشأة دولة بني رسول :

 

لقد كان بني رسول في بادئ أمرهم موظفين لدى الدولة الأيوبية وكانوا ذا شأنٍ كبير في المهام التي كانت تقع على عاتقهم من المراسلات وإستقبال الوفود وتوديعهم وإفتتاح دور الضيافة، فكسبوا ثقة ملوك بني أيوب حتى استخدموهم في شؤون إدارية مهمة.

 

وكان أول ما قدم بني رسول إلى اليمن أثناء حملة سيف الإسلام طغتكين، وكسبوا ثقة الأيوبيين وتولوا مناصب عسكرية هامة إضافة إلى تسليمهم بعض المناطق ليكونوا عمالاً عليها.

 

وفي عصر الأمير مسعود الأيوبي كانت الفرصة الذهبية التي هيأت لقيام دولة بني رسول حين قام الأمير بتوليتهم عمالاً على اليمن.

 

وفي سنة 617هـ/ 1220مـ، سيطر المسعود على صنعاء وما حولها، وتوجه بعدها إلى مكة المكرمة لانتزاعها من حسن بن قتادة، الذي قتل والده وأخاه وعمه كي يصبح هو شريف مكة، وفر على إثرها ابن قتادة إلى بغداد، ومن ثم قام المسعود بتولية الأمير نور الدين عمر بن علي بن رسول على مكة وما حولها، وعاد بعدها إلى مصر، بعد أن استقر معظم اليمن إلى بني أيوب وعليها عماله من بني رسول.

 

يذكر الكبسي في كتابه اللطائف السنية في أخبار الممالك اليمنية، أن المسعود خاف على ملك اليمن من بني رسول، وذلك بعد أن بلغت أخبارهم مصر، إثر ما قاموا به من التوسع الكبير، خاصة تمكنهم من القضاء على تمرد المرغم الصوفي، وصد هجوم الإمام الزيدي عز الدين محمد بن المنصور بالله على مدينة صنعاء، بعد أن قتلوا أغلب جند الإمام وفروا بعيدًا عن صنعاء عام 623هـ/ 1226مـ، وبعد هذه الحادثة بسنة فقط عاد المسعود مرة أخرى إلى اليمن، فلما دخل تعز، أمر على الفور بالقبض عليهم جميعًا إلا الأمير نور الدين عمر؛ فقد كان يعتقد أنه الأكثر ولاء، حيث كان المسعود يكن له الحب والمودة، وولاه على اليمن كاملًا.

 

وبعد ذلك بسنة، تجهز المسعود للعودة إلى مصر وأخذ معه أموالًا وخزائن ما جمعه من أموال اليمن، وكذلك أخذ معه إخوة نور الدين ليسجنهم في مصر، ولكنه عندما وصل مكة المكرمة مات فيها عام 626هـ/ 1228مـ، وهنا بدأ نور الدين تحركاته السياسية الأولى للنهوض بدولته، وهذا التاريخ الذي اعتمده المؤرخون لقيام الدولة الرسولية.

 

استغل نور الدين وفاة مسعود فقام على الفور بإرسال برقية تعزية إلى السلطان الأيوبي يعلن فيها الطاعة الكاملة لها حتى استطاع أن يأمن جانب الأيوبيين فوثق به السلطان الأيوبي الجديد ومكنه من نيابته في اليمن فقام على الفور بعزل القادة الذين يشكلون خطراً عليه، وعقد صلحاً مع الأئمة الزيدية ليقفوا معه ضد الأيوبين في مصر إذا ما حاولوا دخول اليمن، وأرسل برقية للخليفة العباسي يعطيه فيها الطاعة لبغداد كي يضفي على نفسه صفةً شرعية، فاستجاب له الخليفة العباسي المستنصر بالله وبذلك استكمل مظاهر الإستقلال لدولته الرسولية الجديدة، واتخذ من تعز عاصمة للدولة.

 

كيف كانت اليمن خلال العصور الرسولية :

 

تسم حكم الرسوليين لليمن بأنه الأكثر تنظيمًا واستقرارًا في التاريخ الإسلامي؛ إذ يعد حكمهم من أفضل فترات التاريخ اليمني ازدهارًا وحضارة في كثير من الجوانب، إذ شهد استقرارًا سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا في غالب الأوقات، وكان لهم دور بارز في تشييد الكثير من المدارس والمساجد والقصور والحصون المعمارية الرائعة، التي ما يزال بعضها موجودًا إلى هذا اليوم، كما ازدهرت الزراعة والصناعة والتجارة في عهدهم بشكل كبير، وكانت علاقتهم مميزة مع الدول المجاورة وأيضًا الأفريقية منها، وأيضًا مع الهند والصين.

 

كان حكام بني رسول يتسمون بالعلم والمعرفة الواسعة جدًّا، ولديهم جميعًا عشرات المؤلفات في الطب، والصيدلة، والفلك، والزراعة، والصناعة، والأنساب، والتاريخ، والجغرافيا، والحرب، والسياسة، وأيضًا اللغة والشعر (سنأتي على ذكر بعضها)، وحققت الدولة الرسولية نجاحات سياسية وعسكرية وإصلاحات إدارية إلى حد بعيد، خاصة في العاصمة الرسولية «تعز».

 

اعتمدت الدولة الرسولية على الزراعة والصناعة والتجارة، وعملوا على توسيعها واهتموا بشكل كبير جدًّا بالزراعة والمزارعين كي يزيد الإنتاج؛ لأنه يعد موردًا أساسيًّا للدولة، فأحسنوا معاملة المزارعين ورفعوا عنهم كثيرًا من المظالم، وكانوا يتفقدونهم بصفة شخصية ومستمرة، وأعفوا المزارعين من دفع الخراج السنوي إذا تعرضت مزارعهم للتلف لأي من الأسباب.

 

أما التجارة فكان لها الدور الأهم في الحياة الاقتصادية للدولة الرسولية إذ أصبح اليمن في عصرهم طريقًا مهمًّا في التجارة العالمية ومن أهم المحطات لاستقبال السلع التجارية من الهند والصين… وذلك بسبب موقعه الاستراتيجي ووجود عدة موانئ على شواطئه كان أهمها ميناء عدن، حيث شكلت العائدات التجارية منه موردًا أساسيًّا لخزينة الدولة، كما قاموا بحماية السفن من القراصنة في المحيط الهندي، وجهزوا لذلك سفنًا حربية (شواني) وهو ما أدى لتقاطر السفن بشكل مستمر وأسبوعيًّا إلى موانئ اليمن.

 

الرسوليين في مكة :

 

ضرب بني رسول عملتهم في مكة لإضفاء صبغة دينية على ذلك، وبدأ حكم الرسوليين لمكة عام 631هـ/ 1233مـ، بعد أن تمكن الملك الأول، المنصور نور الدين، من السيطرة في هجوم عسكري كبير جدًّا وأخذها من الأيوبين، ومن أبرز مظاهر السيادة الرسولية على مكة، الدعاء لملوك بني رسول في الحرم المكي في الخطب والصلوات.

 

مكة بين الرسوليين والأوبيين والمماليك :

 

جهز الملك الأيوبي الكامل جيشًا جرارًا وتمكن في 633هـ/1235مـ من السيطرة على مكة، وبعدها بسنتين أعاد نور الدين الكرة وسيطر على مكة من جديد، وأعاد بنو أيوب هجومهم في 637هـ/1238مـ وسيطروا عليها، ولكن نور الدين أعاد السيطرة عليها مرة أخرى في العام ذاته، ومرة أخرى سقطت مكة بيد الأيوبيين بعد ذلك بسنة، ليعيدها نور الدين مرة أخرى 638هـ/1239مـ، وكانت هذه آخر مرة يحاول فيها الأيوبيون السيطرة على مكة بسبب ضعفهم في آخر أيام حكمهم، وبقيت بعهدة الرسوليين لقرابة الخمسين عامًا حتى وفاة الملك الثاني المظفر يوسف، ومن ثم بسطت الدولة المملوكية سيطرتها على مكة عام 694هـ/ 1294مـ.

 

وبسبب العلاقات الودية بعض الشيء بين المماليك والرسوليين، وعدم الاحتكاك كثيرًا فيما بينهم خاصة في البداية، لم تحصل أي محاولات جديدة للرسوليين لإعادة السيطرة على مكة، ومع ذلك جذب حكام الدولة الرسولية سكان مكة المكرمة وأمراءها عن طريق الهبات والعطايا لهم، ومساعدة العلماء، فأنشأوا عددًا من المدارس والمساجد، واعتنوا بالحرمين والمشاعر المقدسة.

 

وكسا الملك المظفر يوسف الكعبة من داخلها وخارجها لأول مرة من اليمن عندما كانت تحت سيطرته، وذلك بعد أن سقطت بغداد عاصمة الخلافة العباسية في يد المغول عام 656هـ/1258م؛ إذ كان الخليفة العباسي آنذاك يرسل كساء الكعبة، وبقيت كسوة الملك المظفر الداخلية حتى عام 761هـ/1359مـ، وكتب على لوح رخامي داخل الكعبة «أمر بتجديد رخام هذا البيت المعظم، العبد الفقير إلى رحمة ربه وأنعمه، يوسف بن علي بن رسول، اللهم أيده بعزيز نصرك، واغفر له ذنوبه، برحمتك يا كريم يا غفار، بتاريخ سنة ثمانين وستمائة هجرية»، أي إنه وضع هذا اللوح بعد أن كسا الكعبة بـ19 سنة.

 

سقوط الرسوليين :

 

لم يكن حكم الرسوليين لليمن سهلًا أبدًا، ومن يقرأ تاريخ الحروب التي خاضوها في سبيل تثبيت سيطرتهم على اليمن وجنوب الحجاز، يعلم أن سيولًا من الدماء سالت في سبيل ذلك؛ إذ كان لهم أعداء كثر أهمهم الأئمة الزيدية، وأيضًا شيوخ القبائل، والأشراف، والأيوبيون، والمماليك، وحدثت عشرات التمردات في سبيل إسقاطهم، ولكنها فشلت، ولكن ما أسقطها فعلًا هو الخلاف الداخلي بين أبناء البيت الرسولي، فمنذ مقتل المؤسس نور الدين عمر على يد مماليكه (جنوده) في قلعته بمدينة الجند في تعز، بدأت الصراعات الداخلية، لدرجة أن يقوم الابن على أبيه وأخيه، والعم على أولاد أخيه، وتقع صراعات داخلية أدت لضعف دولتهم وتقهقرها، فبدأ الأعداء على الفور بأخذ القطعة تلو الأخرى من مناطق سيطرتهم حتى فر آخر ملوكهم الملقب بالمسعود إلى الحبشة.

 

وذكر المؤرخون أن 14 ملكًا رئيسيًّا تعاقبوا على حكم الدولة الرسولية، دون ذكر الأبناء والأعمام الذين أعلنوا أنفسهم ملوكًا وجرى إنهاء حكمهم بعدما حاولوا انتزاع السلطة، ومن المفارقات أن آخر ملك أيوبي ورسولي حكما اليمن كانا يلقبان بالمسعود (المسعود أبو القاسم بن إسماعيل الرسولي، والمسعود صلاح الدين يوسف الأيوبي)، بينما كان سقوط ميناء عدن 858هـ/ 1454مـ، السنة التي انتهت فيها الدولة الرسولية وأفسحت المجال لظهور دولة يمنية جديدة تدعى الدولة الطاهرية.


التعليقات