[ من مظاهرات ثورة 11 فبراير 2011 في اليمن ]
يُقاس نجاح أي ثورة بما تفرزه من نتائج ذات أثر إيجابي في حياة الشعوب، وتقاس بشاعة أي ثورة مضادة بما تتسبب به من حروب وأزمات وانقسامات وجرائم ضد الإنسانية، ولعل ذلك ما يتجسد في الحالة اليمنية، فثورة 11 فبراير 2011 الشعبية السلمية كادت أن تحقق أكبر نقلة في تاريخ اليمن الحديث والمعاصر، ذلك أنها لم تنجح فقط في وضع حد لمشاريع التسلط العائلية والسلالية، ولكنها كادت أن تنقل اليمن إلى العصر الحديث بكل مزاياه، وفي المقدمة إقامة دولة المواطنة المتساوية والنظام والقانون والتداول السلمي للسلطة، غير أن قوى الثورة المضادة وداعميها، السعودية ودولة الإمارات، أبت إلا أن تعيد اليمن عدة عقود إلى الوراء، إلى زمن الاحتلال الأجنبي والحكم السلالي الطائفي والجماعات المسلحة التي تنتمي إلى زمن ما قبل الدولة.
صحيح أن الثورة هي عملية تطور طويلة الأمد تمضي نحو تحقيق أهدافها بثبات، وهذا هو المصير الحتمي لثورة 11 فبراير، بينما الثورة المضادة ليست سوى عراقيل مؤقتة مصيرها الزوال والانجراف مع حركة التاريخ، غير أن خطورتها، أي الثورة المضادة، تكمن في أنها تتسبب بانقسامات وخسائر وحروب عبثية، ويعود وبالها على كل الأطراف بدون استثناء، وأحيانا تكون الثورة المضادة وداعموها الخاسر الأكبر، كونهم دخلوا في مرحلة من الإنهاك الذاتي خوفا من التغيير الذي ستأتي به الثورة، وإذا بالإنهاك الذاتي يلقي بهم إلى مزبلة التاريخ، ذلك أن الثورات في تاريخ الشعوب لا تأتي من فراغ، فهي لا تندلع إلا بعد ثورات وعي، والوعي يتحول إلى أفكار في ذاكرة الشعوب تتطور بتقادم الزمن، ولم يسجل التاريخ أن ثورة واحدة فشلت وصارت طي النسيان، فالثورات قد تتعثر ولكنها لا تفشل، وقد تبطئ في تحقيق أهدافها، ولكنها لن تتخلى عنها.
- مخرجات الثورة والحوار الوطني
يمثل مؤتمر الحوار الوطني الشامل أحد أبرز مخرجات ثورة 11 فبراير 2011 الشعبية السلمية، فالحوار الذي ضم النخبة اليمنية بمختلف توجهاتها، كانت مخرجاته بمثابة عصارة أحلام الشعب اليمني بدولة مدنية حديثة ديمقراطية تعددية. وعندما بدأت تحين لحظة حصاد نتائج الثورة، وشعر النظام السابق أن البلاد مقبلة على عهد جديد يشكل إدانة مُرّة لعهده الظلامي، لجأ إلى خيار شمشون، عليّ وعلى أعدائي، وتحويل مرحلة ما بعد الثورة إلى مرحلة ظلامية ليجبر الناس على الحنين إلى عهده، محملا أوزاره ومساوئه الثورة وشبابها، ويعكف على شيطنتها بكل أساليب الدعاية السوداء، ويحرك علاقاته الزبائنية وتحالفاته القذرة ونفوذه السياسي والعسكري ودولته العميقة، لينفث أحقاده السامة في وجه الجميع.
والسؤال هنا، ماذا لو كانت ثورة 11 فبراير قد مضت في طريقها الذي رسمته بدون اعتراض أو عراقيل من قوى محلية ودول أجنبية أو انقلاب على العملية السياسية والتوافق الوطني وما أفرزته مخرجات مؤتمر الحوار؟ الجواب، لا شك أنه في هذه اللحظة ستكون اليمن قد أصبحت شيئا آخر ربما لا يمكن تصوره الآن، دولة فيدرالية مدنية حديثة ديمقراطية تعددية، تتنافس أقاليمها الفيدرالية على البناء والتنمية، ويستعرض الآن كل إقليم ما أنجزه بعد عشر سنوات من اندلاع الثورة، وكل إقليم يستفيد من تجربة الآخر في التنمية والنهوض، ويشعر المواطنون بالأمان والطمأنينة، ويحتفل الجميع بالذكرى العاشرة للثورة بإجلال كبير، وتكريم عائلات شهداء الثورة، والإشادة ببطولاتهم وتضحياتهم الجسيمة لأجل الوطن.
لقد كان من مخرجات الثورة أنها نجحت في إسقاط أطول نظام أسري حاكم في تاريخ اليمن استمر 33 عاما، وأعادت ترميم الوحدة الوطنية بعد أن تسبب نظام صالح بانقسامات وحروب وثارات وتنابز مناطقي شمل كل الجغرافيا اليمنية، كما أنها أعادت تقديم اليمن للعالم بصورة جديدة مغايرة كليا لتلك الصورة التي رسخها الرئيس علي صالح لدى الآخرين بأن اليمن هي بلاد القبائل المتخلفة والجماعات الإرهابية وبلاد الستين مليون قطعة سلاح، وأنها قنبلة موقوتة على وشك الانفجار في أي لحظة، حتى صار اليمني متهم في كل مطارات العالم حتى تثبت براءته، ويُعامل معاملة تمييزية تنتهك آدميته قبل كل شيء، كل ذلك بسبب الصورة النمطية السلبية التي قدمها علي صالح للعالم عن اليمن.
كذلك فقد كان من أهم مخرجات الثورة مؤتمر الحوار الوطني، الذي تعد مخرجاته من مخرجات الثورة أيضا، وقد شملت مخرجاته حلولا منصفة ومنطقية وتوافقية لكل أزمات البلاد، ووضعت الخطوط العريضة لمستقبل البلاد والانتقال من عهد الفوضى والحكم العائلي القروي المتخلف والفاسد إلى عهد الدولة المدنية الحديثة، ونظام الحكم الفيدرالي، والعدالة في توزيع السلطة والثروة، وإعمال مبدأ الكفاءة وتساوي الفرص في شغل المناصب الإدارية، وإعادة هيكلة قوات الجيش والأمن، وطمس هوياتها العائلية والمناطقية والطائفية، ونقلها من ولاءاتها الضيقة إلى الولاء لليمن الكبير والدولة الحديثة المدنية الديمقراطية.
- مخرجات التدخل السعودي الإماراتي
تصدرت السعودية ودولة الإمارات الثورات المضادة لثورات الربيع العربي، بفعل المخاوف من وصول تلك الثورات إليها، وتعددت وسائل وأد تلك الثورات بحسب ظروف كل بلد وانقساماته والثغرات التي يمكن التسلل منها. ونظرا لأن ثورة 11 فبراير في اليمن اندلعت وسط أزمة سياسية حادة في البلاد، فقد شكل ذلك ثغرة تسللت من خلالها السعودية ودول خليجية أخرى تحت لافتة "المبادرة الخليجية"، وهي المبادرة التي حولت الثورة اليمنية إلى أزمة سياسية.
لقد كانت الحلول التي قدمتها المبادرة الخليجية تتناسب مع طبيعة الأزمة السياسية السابقة للحظة اندلاع الثورة، فالمرحلة الانتقالية وتقاسم السلطة وتنحي علي صالح من الرئاسة، هي حلول للخروج من أزمة سياسية حادة، وليست مطالب رفعتها الثورة الشعبية، لكن جرى خلط هذه بتلك، والهدف امتصاص الغضب الشعبي، وإفراغ ساحات الاعتصام من الجماهير، والدخول في متاهات جديدة من الاستقطاب السياسي والتخطيط لعسكرة الثورة والانقلاب على التوافق السياسي وهدم كل ما جاءت به المبادرة الخليجية، وتقليص الخيارات ومساحة الحركة أمام شباب الثورة، تمهيدا لمخطط الانقضاض عليها.
وفي الوقت الذي حاصر فيه شباب الثورة المحاولات الالتفافية على مطالبهم، وشكلت التظاهرات الأسبوعية كل يوم جمعة وسيلة ضغط على حكومة الوفاق الوطني ومؤتمر الحوار الوطني لمنع الانحراف عن أهداف الثورة، كان هناك على الجانب الآخر تمهيد لانقضاض الثورة المضادة على كل ما تحقق وإعادة الأوضاع إلى أسوأ مما كانت عليه، وكانت مليشيات الحوثيين بمثابة رأس الحربة للثورة المضادة، وحدث الانقلاب المدعوم سعوديا وإماراتيا من وراء حجاب، ثم التدخل العسكري بعد أن بدا أن إيران هي المستفيدة من ذلك.
اتسم التدخل السعودي الإماراتي في اليمن بخذلان كل الأطراف التي كانت بمثابة أدوات لهما. في البدء، خذلت السعودية الرئيس صالح عندما أجبرته على التنازل عن السلطة بموجب المبادرة الخليجية وهو الذي كان حليفا لها منذ تسلمه حكم اليمن الشمالي ثم حكم اليمن الموحد، بعد ذلك انقلبت على الحوثيين وحليفهم علي صالح بعد أن كانت هي والإمارات الداعم الرئيسي لانقلابهم على السلطة الشرعية، ثم انقلبت الدولتان على السلطة الشرعية من خلال منع تقدمها نحو مناطق سيطرة الحوثيين، ودعم مليشيات انفصالية مناهضة للسلطة الشرعية في جنوب اليمن، ودعم انقلاب ثانٍ في عدن، رغم أن تدخل الدولتين كان بذريعة مساندة السلطة الشرعية والقضاء على الانقلاب الحوثي.
- نتيجة الثورة المضادة
وبعد ما يقارب سبع سنوات من الحرب، تبرز اليوم مخرجات التدخل السعودي الإماراتي في اليمن، فالدولتان، ومعهما قوى الثورة المضادة محليا، أدخلت البلاد عهدا مظلما من الانقسامات السياسية والاجتماعية المعقدة، وأعادت البلاد إلى زمن الحكم السلالي الكهنوتي في شمال البلاد وزمن الاحتلال الأجنبي في الجنوب، كما أعادت زمن المشاريع الصغيرة البدائية، وتدعم الجميع ضد الكل، وتخذل الحليف وتتواطؤ مع العدو، كل ذلك يمثل نتيجة منطقية لبشاعة الثورة المضادة وداعميها.
ولولا ذلك، لكانت ثورة 11 فبراير، ومخرجات الحوار الوطني، قد نقلت اليمن إلى آفاق جديدة، وأحدثت نقلة نوعية في تاريخ البلاد، وما نراه اليوم لا علاقة له بمخرجات ثورة 11 فبراير، وإنما يجسد مخرجات الانقلاب على السلطة الشرعية، ومخرجات التدخل السعودي الإماراتي في الأزمة اليمنية. ورغم كل ذلك، ما زالت ثورة 11 فبراير وأهدافها حاضرة، وتحاصر كل مشاريع التمزيق والتخريب والتسلط السلالي والمناطقي، وتعرّي الدور السلبي للأشقاء والأعداء معًا.