الأناشيد اليمنية ورحلة التطور من البداية حتى التراجع (تحليل)
- عامر الدميني الأحد, 27 مارس, 2022 - 03:52 مساءً
الأناشيد اليمنية ورحلة التطور من البداية حتى التراجع (تحليل)

[ مر النشيد اليمني بعدة مراحل ]

عندما تستمع لألبوم "طائر الذكريات" للفرقة المركزية للإنشاد في تعز اليوم، تجتاحك عاطفة جياشة من المشاعر والذكريات، والأمر نفسه يتكرر مع ألبوم "دموع الشوق" لفرقة اليرموك بالسارة بمحافظة إب.

 

تشعر أمام هذه الألبومات وغيرها بعذوبة، وذكريات تتدفق في الوجدان، وحنين وشوق يتفجر في الروح، وتدرك بكل قناعة أن مثل تلك الأعمال كانت من الأشياء الرائعة التي حدثت في حياتك ولا يمكن أن تتكرر، سواء على مستوى الذات، أو على مستوى الجيل الراهن.

 

هذه الفرق وغيرها من فرق الإنشاد في مختلف المحافظات مثلت واحدة من وسائل التغيير الإيجابي في الواقع، وكانت انعكاس لثقافة وسطية معتدلة ومتزنة، ونجحت في اجتياح القلوب، والتجذر في المجتمع، وأزالت الكثير من رواسب وتراكمات خاطئة هيمنت على مجتمعاتنا المحلية لعقود.

 

 مرت مسيرة الإنشاد اليمني بعدة مراحل من النشأة والتكوين، إلى الينوع والازدهار، ثم إلى النجاح الواسع، واستطاعت مواكبة التطورات في الفن، وفي حراك المجتمع الثقافي والسياسي، فطرب وأنشد هؤلاء لكل شيء في الحياة، من أناشيد الوعظ، إلى أناشيد الأخلاق، والتزكية، إلى الأناشيد الروحية، ثم الأناشيد الوطنية والسياسية، وأناشيد الأعراس، والأطفال، وغيرها من مجالات واهتمامات النشيد في اليمن، الذي لازال مادة ثرية لاستكشاف تاريخ هذا اللون من الفن، وكيف نشأ وتطور، وعوامله نجاحه وانطلاقه، وصولا إلى مرحلته الراهنة.

 

ومن المهم هنا التأكيد أن هذا الفن نشأ واشتهر بشكل مجموعات، ثم تحول للفردية، بمعنى أن بداياته كانت على هيئة فرق إنشاد تعمل كل واحدة في نطاق جغرافي معين، مثل فرقة اليرموك بالسارة، وفرقة الندى في إب، والفرقة المركزية في تعز، وفرقة الرواد في تعز، والفرقة المركزية في إب، وفرقة الخير في ريمة، وفرقة الخلود بصنعاء، وفرقة البشائر بالحديدة، وفرقة الإيمان بذمار، بل وكان هناك فرق أناشيد على مستوى المديريات، بينما تتنافس عدة فرق داخل المحافظة الواحدة.

 

 وكان هناك فرقة لها اسلوبها الخاص، واتجاهها الواضح، الذي يمزج بين المحافظة على النشيد، ولكن مع حضور روحاني أكثر، وهي فرقة المسرة بحضرموت، التي كانت الأعمال التي تقدمها ذات نفس صوفي أصيل، ولحن جيد، وأداء متنوع.

 

 لكن لاحقا هيمن التفكك على تلك الفرق، وبدأت تنشطر، وذهب كل عضو في تلك الفرق في طريق لوحده، فمثلا فرقة اليرموك بالسارة، كان يمثل أبرز أصواتها فواز الشهاب، وعصام الحميدي، وغيرهم، ذهب فواز لإنتاج أعماله الخاصة، ومثله ذهب الحميدي، والأمر نفسه تكرر مع عدة فرق أخرى، مثل أمين حاميم الذي كان عضوا في إحدى الفرق، ثم شق طريقه لوحده.

 

 ربما كان الأمر نوع من التأثر غير المباشر، والذي أصاب هذه الفرق مثلما أصاب فرقا خارجية شهيرة خاصة الأردنية، كاليرموك والروابي والبراء، والتي خرج بعض أعضائها من العمل ضمن الفرقة الواحدة إلى العمل الفردي، مثل أيمن رمضان، وعبدالفتاح عوينات، وخيري حاتم، وغيرهم الكثير، وأصبح لك واحد منهم طريقته وأسلوبه، ومجالات الاهتمام التي عمل عليها.

 

 

 

صحيح أننا شهدنا العديد من التنافس لدى كل هذه الأسماء الفنية التي وصلت شهرتها العالم، ولكن هذا التفكك كسر النمط التقليدي للفرقة الواحدة، التي كان لأعمالها مذاقا خاصا، يتسم بالعمل الجماعي، والأصوات المتعددة، وغيرها من المزايا.

 

 استعملت تلك الفرق في بادئ الأمر الطبلة كوسيلة للإيقاع المرافق للحن، ثم تطور الأمر لاحقا لاستخدام وسائل أخرى مساعدة، ومع الوقت طرأ على هذه الأناشيد تحولا جذريا، تمثل في الانتقال لاستعمال الموسيقى بكافة أنواعها، وربما جاء هذا أيضا انسجاما مع دخول الموسيقا في عدة بلدان كالأردن ومصر على النشيد الإسلامي، فحصل نوع من المزيج بين الفن المعتدل والموسيقا العصرية، وأنتج ذلك فنا جديدا من الأغنية الحديثة، المواكبة لجملة من التطورات في مسار الجماعات والأحزاب الإسلامية، وانتقالها من حالة السلفية التقليدية الرافضة للموسيقا إلى الانفتاح على وسائل العصر، واحتفظ العديد من المنتجين بالدف والإيقاع، وصارت شركات الإنتاج تقدم عدة نسخ من الأعمال الفنية، على سبيل المثال نسخة بالموسيقا، وأخرى بالإيقاع، والثالثة بدون أي تأثير، لتتناسب مع أمزجة وأهواء المستمعين.

 

ومع هذا التطور الجديد، شهدت الساحة أعمالا فنية راقية في مواضيعها، وتعددت مجالاتها، وتدفقت بغزارة تلك الأعمال، وتحرر المنشدون من أسلوب الماضي، وبات يطلق عليهم "فنان" بدلا من "منشد، وشهدنا اتجاهات جديدة للفن المعاصر والمحافظ، على كافة المستويات، فعلى سبيل المثال هناك ألبومات ذهبت للحديث عن تطوير الذات والمثابرة الشخصية، مثل "سأبقى جميلا" لمجموعة منشدين، وكذلك ألبوم "اعتذار" لأمين حاميم، ومجموعة أغاني لفواز الشهاب.

 

إن المدرسة الفنية اليمنية للنشيد انطلقت منذ البداية الأولى من المهد، وشكلت نفسها لاحقا، وتأثرت بمحيطها الخارجي، لكنها حافظت على أسلوبها المستقل، وترعرعت في البداية بسبب المعاهد العلمية التي كانت منتشرة في أرجاء اليمن، والمناخ الذي تهيء لها، خاصة إبان فترة حكم الرئيس السابق علي عبدالله صالح، ولذلك يبدو واضحا كيف أن النشيد اليمني ازدهر في الشمال، بينما لم يكن له أي انتشار في محافظات الجنوب.

 

اتسمت تلك المدرسة بالمحافظة على هوية المجتمع، والدعوة للقيم الدينية، مستهدفة الشباب بشكل كبير، وكانت في البداية ذات خطاب موجه لذات الجمهور الذي ينتمي له القائمون عليها، ثم بدأت تخرج لتخاطب كل المجتمع، مقدمة ألوان جديدة من الألحان والكلمات، التي كانت تؤثر في الشباب بشكل خاص، والعامة بشكل عام، وخلت من مفاهيم التعصب المناطقي، والانتماء المذهبي، بل وكانت في سياقها العام تحث على حب الوطن، وتمجد القضايا العربية كفلسطين، وواحدية المصير بين العرب والمسلمين، وخلت من أي نزعات تحريضية، أو مفاهيم خاطئة، ولذلك كان لها قبولا واسعا في مختلف أرجاء اليمن.

 

استطاعت مدرسة النشيد اليمني خلال فترة وجيزة أن تصنع مسارها، وتنافس خارجيا، وتقدم لليمن أجيالا ووجوها متنوعة من الشباب، والفرق، والشعراء، والملحنين، ومن أبرز تلك الوجوه في مجال كتابة القصيدة عبدالرحمن القاضي، وأحمد الشلفي، وجمال أنعم، وماجد الجبري، وعجلان ثابت، وهؤلاء عينة للاستشهاد، وليس قائمة مغلقة، أما في مجال اللحن فقد ظهر العديد من الملحنين، مثل قائد أبو هشام، وجميل القاضي، وفواز الشهاب، وعصام الحميدي، وأمين حاميم، وسليمان العراقي، وعبدالقادر قوزع، وغيرهم الكثير والكثير مما لا يتسع المجال لذكرهم.

 

استفاد النشيد اليمني أيضا من المناخ الديمقراطي السائد في اليمن، وواكب مراحله المختلفة، وأقدم ما أتذكره هنا حضوره منذ تحقيق الوحدة، مثل مراحل الانتخابات والمناسبات عبر النشيد الذي كان يستنسخ ألحان الأغاني الشهيرة ويغير في كلماتها، ويقدمها بذات اللحن المنتشر شعبيا، وهو الأمر الذي لايزال قائما حتى اليوم، ويستخدمه الفنان محمد الأضرعي، وكذلك المذيع محمد الربع، وهو طابع يحقق شهرة واسعة، لكنه – كرأي شخصي – يؤثر على الأغنية الأصل، ويسلبها روحها، كما يهمل حقوق صاحب اللحن الأول.

 

هذا اللون السياسي للنشيد برز بشكل كبير قبيل الانتخابات الرئاسية الثانية في العام 2006م، حيث كان للنشيد السياسي الساخر تأثيره الشعبي، خاصة مع وجود تكتل اللقاء المشترك، وكان الاسم الرائد في هذا المجال فهد القرني، الذي أصدر العديد من الألبومات، التي أزعجت سلطة صالح حينها، ووصل الأمر حد اعتقاله في تعز.

 

 أدى هذا الرواج والانتشار للنشيد في اليمن إلى انتعاش تجارة رائجة لهذا اللون، فتشكلت أيضا طبقة من رجال الأعمال والمؤسسات التجارية التي تعمل في الإنتاج والدعاية والتسويق والتسجيل والطباعة، وكانت أول مؤسسة متخصصة لهذا العمل مؤسسة الخير في صنعاء، ثم جاءت مؤسسة الضياء، التي كان لها فروعا في عدة محافظات، وأذكر فرعها أمام الجامعة القديمة في صنعاء، وفرعها أمام المؤسسة الاقتصادية في إب، وتميزت هذه المؤسسة بأنها كانت تنتج أعمالا محلية في اليمن، وبنفس الوقت كانت وكيلا لشركات إنتاج خارجية في اليمن، ثم جاءت مؤسسة الرسالة في إب، ومؤسسات أخرى، وأدى هذا الانتعاش إلى سهولة وصول شريط الكاسيت المستخدم حينها لكل المجتمع في اليمن.

 

 وهذا الانتعاش كان له أيضا تأثيره من نواح مختلفة، فكانت الإعلانات لتلك المؤسسات عن الألبومات الجديدة مصدر من مصادر الدخل للصحف الأهلية، مثل صحيفة الصحوة بدرجة أساسية، والتي كانت تتابع جمهوريا كل خميس لمعرفة الألبومات الجديدة لفرق الإنشاد الصادرة عن المؤسسات.

 

والأمر الآخر وفر هذا النوع من الفن وظائف عديدة للعاملين فيها، خاصة العاملين في الدعاية والإعلان، والذين أيضا سعوا للارتقاء بأساليبهم في الترويج ولفت انتباه المشاهدين للإعلان الدعائي، ومن أولئك البارزين في هذا الجانب الصديق العزيز نجيب الغابري، عبر طريقته في تصميم الإعلانات الجاذبة للألبومات الجديدة.

 

مثلت ثورة 2011 ذروة انتشاره وشيوعه، من خلال الأعمال الكبيرة التي جرى تقديمها، والألبومات المتنوعة التي صدرت، وواكبت مرحلة الثورة، وتطوراتها، وكان لها تأثيرها الشعبي الكبير، خاصة بعد وصولها لمرحلة النضج في استخدامها لوسائل الإيقاع المتعددة، وكانت تقدم أعمالا تعكس واحدية العمل، والهم المشترك، فعلى سبيل المثال نشيد "عهدا يا شهداء الثورة" الذي غناه منشد عدن محمود كارم، ولحنه جميل قاضي المنشد المنحدر من صنعاء، وكلماته من تأليف الشاهر دهاق الضبياني.

 

 ومثلما تأثر النشيد اليمني بمراحل الازدهار في اليمن، فقد تأثر أيضا بمراحل الضعف والصراع، ومثل انقلاب الحوثيين في صنعاء واحد من الأسباب التي أدت لخفوت دور هذا اللون، وتراجعه بشكل كبير، بعد تفضيل الكثير من العاملين فيه الصمت أمام وحشية الحوثيين، وهجرة العديد منهم إلى خارج اليمن، بالإضافة لأجواء الحرب والصراع والدم التي سادت البلد، ودفعت الشعب وكل اليمنيين إلى اهتمامات أخرى.

 

 ثم جاءت الزوامل والشيلات لتملأ هذا الفراغ، وتقدم عصرا جديدا من الانحطاط للذائقة والاهتمام، وهو مجيئ متزامن مع ذات اللحظة التي ولدت فيها هذا النوع، متمثلا بصعود الحوثيين، واتخاذهم الزوامل أسلوبا شعبيا لإيصال رسائلهم، وتحفيز أنصارهم.

 

 كان هذا مجموعة خواطر وذكريات عن حقبة مثلت أفضل الحقب في اليمن بالنسبة لأجيال كثيرة، وهي التي ستفه هذا الكلام جيدا، كما أنها محاولة لنقل حياة مندثرة لجيل قادم ربما لا يعلم عنها الكثير، وليعذرنا من كان لهم دورا، ولم أتطرق لهم هنا.

 

وأعتقد أن الوقت قد حان لتجديد مثل تلك الأعمال من الأناشيد بأسلوب العصر، مثلما أن الفرصة باتت أيضا مواتية للرائدين فيها بالماضي للحديث عن تجربتهم، وتوثيقها ونقلها للأجيال.


التعليقات