تصعيد سعودي ضد الإمارات في اليمن.. هل حان وقت الحساب؟
- أحمد الزرقة الثلاثاء, 30 ديسمبر, 2025 - 02:31 مساءً
تصعيد سعودي ضد الإمارات في اليمن.. هل حان وقت الحساب؟

[ السعودية حذرت من إجراءات الانتقالي ]

في اليمن، الحروب تلد بعضها: ما إن تهدأ جبهة حتى تنفجر أخرى، وتمتد الحرائق من محافظة إلى أخرى في متوالية تستنزف البلد والناس معًا. هذه المرة، يبدو أن النار تقترب من اللاعبين الإقليميين والدوليين بصورة مباشرة، وتطال شريكي التحالف: السعودية والإمارات. فبدل أن ينصبّ الجهد على إطفاء الحريق الأصلي المتمثل بانقلاب مليشيا الحوثي، جرى خلال السنوات الماضية إشعال حرائق أخرى في عدن وحضرموت وسقطرى والمهرة، حتى بات السؤال اليوم ليس عن جبهةٍ جديدة فحسب، بل عن معنى الدولة اليمنية نفسها ومن يملك قرارها.

 

التصعيد هذه المرة لم يأتِ بالإيحاءات، بل بنصوص صريحة. صدر قرار رئاسي يمني بإلغاء اتفاقية الدفاع المشترك مع دولة الإمارات العربية المتحدة، وألزم القرار القوات الإماراتية ومنسوبيها بالخروج من الأراضي اليمنية خلال (24) ساعة، ووجّه قوات «درع الوطن» بالتحرك لتسلّم المعسكرات في محافظتي حضرموت والمهرة. وفي تأكيدٍ على أن الأمر ليس مجرد إعلان سياسي، قالت قيادة وزارة الدفاع ورئاسة هيئة الأركان اليمنية إنها «مستعدة لتنفيذ المهام الموكولة إليها في ضوء قرارات وإجراءات القيادة العليا».

 

وبالتوازي، قالت وزارة الخارجية السعودية بوضوح إن دولة الإمارات ضغطت على قوات المجلس الانتقالي الجنوبي لدفعها إلى عمليات عسكرية على حدود المملكة الجنوبية في حضرموت والمهرة، ووصفت ذلك بأنه تهديد للأمن الوطني السعودي وخطوات بالغة الخطورة لا تنسجم مع الأسس التي قام عليها تحالف دعم الشرعية. ثم جاءت الإشارة الأكثر حساسية في روايات التحالف: شحنات سلاح وصلت عبر ميناء المكلا. خطورة هذه النقطة لا تتعلق بميزان القوة في يومٍ واحد فقط، بل بسؤال الشرعية القانونية قبل سؤال الكلفة السياسية.

 

فاليمن خاضع لنظام عقوبات أممي يفرض حظرًا موجهًا على توريد السلاح لأطراف محددة بموجب قرارات مجلس الأمن، وأي إدخال لمعدات عسكرية عبر الموانئ خارج القنوات الرسمية يضع الدولة والشرعية والتحالف أمام اختبار بالغ الإحراج. وهذه—بحسب رواية التحالف—هي الواقعة التي أمكن رصدها علنًا في المكلا في اليوم السابق، لكنها تأتي ضمن نمط أوسع تحدثت عنه تقارير أممية وحقوقية طوال سنوات الحرب: دعم وتسليح وتدريب تشكيلات محلية لا تعمل تحت سيطرة الحكومة بصورة واضحة، بما يرسّخ اقتصاد السلاح خارج الدولة ويُبقي الصراع حيًا بدل أن يدفعه نحو الإغلاق.

 

هنا تتضح الصورة: خلافات كانت تُدار في الغرف المغلقة تحولت إلى مواجهة معلنة بين شريكين أساسيين في التحالف، وعلى أرض يمنية مأهولة بالناس، وبمؤسسات لم يعد لديها رفاهية اختبارٍ جديد.

 

ولم يتأخر الوجه الآخر للأزمة في الظهور: بيانٌ مشترك وقّعه أربعة من أعضاء مجلس القيادة الرئاسي—عيدروس الزبيدي، أبو زرعة المحرمي، فرج البحسني، وطارق صالح—رفض ما صدر عن رئيس المجلس، واعتبره مخالفة لإعلان نقل السلطة وقرارًا يفتقر للسند الدستوري والقانوني. وأكد الموقعون أن لا أحد يملك صلاحية “إخراج” دولة من دول التحالف أو الادعاء بإنهاء دورها، ودافعوا عن الإمارات بوصفها شريكًا رئيسيًا في مواجهة الحوثيين وتأمين الملاحة ومكافحة الإرهاب، محذرين من أن استخدام ما تبقى من مؤسسات الدولة لتصفية حسابات داخلية أو إقليمية يفتح الباب لمزيد من الانقسام والفوضى.

 

بهذا البيان، لم يعد الخلاف بين أطراف داخل الشرعية فحسب؛ بل صار خلافًا داخل رأسها. قرار سيادي يُقدَّم للناس بوصفه استعادة للهيبة، يتحول في اللحظة نفسها إلى مادة نزاع داخل مجلس القيادة. وهذا ليس تفصيلًا عابرًا، لأن انقسام القمة في بلدٍ ممزق السلاح يرسل إشارة خطيرة إلى القواعد: لكل طرفٍ “شرعيته” الخاصة، ولكل قوةٍ “حقها” في فرض الوقائع. دلالة ذلك أنه يفتح الباب لمسار حرب أهلية طويلة، لا تُدار بشعار الانفصال أو الوحدة وحده، بل بمنطق القوة الموازية للدولة—على نحو يذكّر، من حيث البنية لا من حيث التطابق، بتجربة قوات الدعم السريع في السودان: حين تصبح المليشيا مؤسسة فعلية، وتصبح الدولة عنوانًا متنازعًا عليه، ويتحوّل النزاع إلى استنزاف ممتد تُنتج فيه الجبهات اقتصادها وسردياتها.

 

فمجلس القيادة لم يولد من مسار سياسي يمني طبيعي يتدرج نحو عقد جديد، بل جاء بترتيب خارجي وبمنطق تجميعي لإدارة التوازنات، فدخل إلى الحكم وهو يحمل تناقضاته معه: تعدد مراكز القوة، وتداخل الولاءات، وتباين الأولويات، وتنافس مشاريع لا يجمعها سوى سقف مؤقت اسمه “الشرعية”.

 

قراءة هذه التطورات بمعزل عن الواقع اليمني اليوم تُنتج استنتاجات ناقصة. اليمن لم يدفع ثمن انقلاب الحوثيين وحده؛ دفع أيضًا ثمن حرب بلا حسم، وثمن تسويات تُدار لتسكين الأزمات لا لمعالجة أسبابها، وثمن شرعية تحولت تدريجيًا إلى عنوان يعتمد على الخارج أكثر مما يعتمد على أدوات وطنية. وبين حرب لم تُحسم وسلام لم يُبنَ كمشروع دولة، تكاثرت ظواهر يعرفها اليمنيون جيدًا: سلطات متعددة داخل الشرعية، قوات متعددة خارج التسلسل القيادي، ولاءات تتبدل بحسب الممول والغطاء، وسياسة تنكمش إلى مساحة تبرير بدل أن تكون مساحة قرار.

 

في هذا السياق، يصبح أي قرار سيادي كبير اختبارًا للقدرة لا للنية. لأن السؤال في اليمن لا يكون: ما الذي قيل؟ بل: من يستطيع أن ينفّذ؟ ومن يملك أن يعطّل؟ الدولة التي لا تحتكر القوة ولا تحتكر الإيراد لا تستعيد هيبتها بالبلاغة. تستعيدها بترتيبات عملية، وبمؤسسات تُسأل وتُحاسب، وبقرارات قابلة للتطبيق لا للاستهلاك الإعلامي.

 

ولهذا تحولت حضرموت والمهرة إلى محور الأزمة. المسألة ليست جغرافيا بعيدة عن صنعاء أو عدن. حضرموت مورد سيادي ومفصل اقتصادي وميناء ومطار، ومساحة يمكن للدولة أن تتنفس منها في زمن الانهيار. والمهرة ليست عنوانًا إداريًا على الخريطة؛ هي خط تماس مباشر مع السعودية، وحساباتها لا تسمح بوجود قوة تتحرك خارج قرار الدولة وبعلاقات خارجية مباشرة. عندما يهتز هذا الخط، لا يبقى الأمر شأنًا محليًا.

 

الخلاف السعودي–الإماراتي هنا ليس خلافًا في الصياغات، بل خلاف على نموذج النفوذ. السعودية، بحكم الجغرافيا والحدود، تحتاج عنوانًا واحدًا للمسؤولية: مركزًا قانونيًا للدولة يمكن مخاطبته وضبطه—حتى لو كان ضعيفًا—لأن وجود عنوان واحد يقلل المخاطر على الحدود ويُبقي الملف قابلاً للإدارة دوليًا. الإمارات تميل إلى نموذج مختلف: شبكة شركاء محليين يمتلكون الأرض فعليًا ويضمنون نفوذًا مستقرًا في مناطق محددة، خصوصًا في الجنوب والسواحل. كان يمكن لهذا التعايش أن يستمر لو بقيت خطوط النفوذ متباعدة، لكن تمدد الصراع إلى حضرموت والمهرة يعني الاقتراب من خط أحمر سعودي، وهو ما انعكس في توصيف الرياض للأمر بأنه تهديد للأمن الوطني.

المشكلة أن هذين النموذجين—كما طُبّقا خلال العقد الماضي—لم يخدما فكرة اليمنيين في استعادة دولة غير منقوصة السيادة. النتيجة العملية كانت تثبيت واقع “الدولة المعلّقة”: مركز قانوني ضعيف، قوة فعلية موزعة، وقرار سياسي يتشكل خارج المؤسسات. ومع هذا المسار تآكل البعد الأخلاقي في التعاطي مع اليمن: تعطيل الحياة السياسية لصالح إدارة الولاءات، إطالة أمد النزاع عبر إدارة توازنات قصيرة المدى بدل معالجة أسباب الانهيار، ودفع الصراع تدريجيًا نحو طابع أهلي واستنزاف طويل الأمد يدفع ثمنه المجتمع—في الرواتب والخدمات والأمن اليومي—بينما تتبدل أدوات النفوذ ولا تتبدل معادلة الدولة الغائبة.

 

ووسط هذا التنافس يدفع اليمنيون ثمنًا مركبًا. تظهر هنا اختلالات بنيوية في المقاربة الإماراتية داخل اليمن، تُقاس بنتائجها على الدولة لا بالشعارات. في مقدمتها دعم وبناء تشكيلات مسلحة خارج هياكل وزارتي الدفاع والداخلية، بما أنتج ازدواجًا دائمًا في السلطة وفتح الباب لصدامات داخل معسكر الشرعية نفسه. ومنها تغليب منطق السيطرة على عقد الجغرافيا—الموانئ والممرات والسواحل والجزر—بوصفها أدوات نفوذ، بما ربط الأمن المحلي بحسابات إقليمية وأضعف القدرة السيادية للدولة على إدارة منافذها ومواردها. ومنها تعطيل مشروع استعادة الدولة عمليًا عبر إبقاء المؤسسات بلا احتكار للسلاح وبلا وحدة قرار، بحيث تُدار السياسة عبر وكلاء قادرين على فرض الوقائع ثم المطالبة بشرعنتها. ولا يمكن فصل ذلك عن محطات شهدت استهدافًا مباشرًا لقوات حكومية أو صدامات معها، وهي لحظات تركت أثرًا عميقًا لدى اليمنيين لأنها مسّت فكرة الجيش الوطني الواحد في أساسها.

 

تفكيك السياسة اليمنية لم يكن أثرًا جانبيًا للحرب فقط؛ بل تحول في كثير من الأحيان إلى أداة لإدارتها. الأحزاب والقوى السياسية عوملت بوصفها عوائق أو أدوات، لا بوصفها تمثيلًا اجتماعيًا. شُيطن بعضها بسرديات جاهزة، وأُعيد تأهيل بعضها الآخر وفق الحاجة. وحين تضيق السياسة يتوسع السلاح: تتشكل قوات وتشكيلات متعددة الأسماء، تنمو حيث تتراجع الدولة، وتتنافس حيث تغيب المرجعية، وتتحول الشرعية إلى مظلة اسمية لا تحتكر القوة ولا القرار ولا الإيراد.

 

هذه هي البيئة التي جعلت من حضرموت والمهرة اختبارًا لما تبقى من فكرة الدولة. المجتمع الحضرمي يريد أن ينجو من نموذج تعدد الأجهزة والتشكيلات الذي يخلق صراع صلاحيات ويُنتج أمنًا هشًا وإدارة متنازعة. والمجتمع المهري لا يريد أن يتحول خط الحدود إلى ساحة رسائل متبادلة. هنا، حين تُغلق مرافق وتتحرك تشكيلات، لا يكون الأمر مجرد نزاع محلي؛ إنه إعادة توزيع للقوة داخل الشرعية نفسها، وتغيير لميزان النفوذ الإقليمي في منطقة لا تحتمل ارتجالًا جديدًا.

 

إذا كان السؤال اليوم: ماذا تمتلك السعودية والإمارات من أدوات ضغط؟ فالإجابة في مفاتيح التأثير الفعلية. السعودية تمتلك الغطاء السياسي للتحالف وإدارة شرعيته، والقدرة على استخدام أدوات ردع عند الضرورة، والتأثير على المنافذ والحدود والفضاء الجوي في مناطق نفوذ الشرعية، والقدرة على توجيه التمويل والدعم اللوجستي ورواتب قطاعات واسعة بصورة مباشرة أو غير مباشرة. كما تمتلك مسارات الوساطة وتسويقها، وتملك في النهاية وزن “المقرر” داخل بنية التحالف.

 

الإمارات تمتلك أدوات من نوع آخر تقوم على الشبكات أكثر مما تقوم على العناوين: نفوذ متجذر عبر شركاء محليين، قدرة تمويل وتسليح وتدريب وتقديم دعم تشغيلي، حضور مؤثر في الموانئ والسواحل وملفات الأمن، نفوذ إعلامي ودبلوماسي يعيد صياغة السرديات، وقدرة على المناورة عبر الاستثمار الاقتصادي والإنساني. هذه الأدوات لا تُعلن كلها، لكنها تظهر عندما تُختبر الدولة الهشة على الأرض.

سيناريو التصعيد يتوقف على سؤال واحد: هل ستُترجم هذه القرارات والبيانات إلى وقائع منضبطة تقلل المخاطر، أم إلى سقوف عالية تفتح الباب لاشتباك؟ هناك ثلاثة مسارات تبدو واقعية. الأول احتواء سريع تقوده السعودية: ضبط الوكيل، وقف التحركات الأحادية، وصياغة تسوية تعيد توزيع المواقع في حضرموت والمهرة دون تفكيك بنية النفوذ نفسها. الثاني احتواء بارد طويل: لا حرب شاملة، لكن تآكل إضافي للمركز القانوني للشرعية، واستمرار إدارة المحافظات كأقاليم نفوذ، وتعمق أزمة الخدمات والرواتب، مع بقاء الأزمة قابلة للاشتعال في أي لحظة. الثالث—وهو الأخطر—صدام محدود يتوسع: اشتباكات حول المعسكرات والمرافق، انقسام داخل مجلس القيادة، وتحول الشرق إلى ساحة استنزاف مفتوحة، بما يمنح الحوثيين مكاسب سياسية واستراتيجية مجانية.

 

وتكتسب المقارنة مع السودان معناها هنا بوصفها دلالة سياسية لا أكثر: عندما تصل دولة منهكة بحرب داخلية إلى حد نقل الصراع من ساحة الداخل إلى ساحة الاتهام الخارجي ضد طرف إقليمي متهم بدعم خصم مسلح. السودان ذهب بعيدًا في التدويل القانوني والسياسي: خطاب تصعيدي، ثم قرارات سيادية، ثم مسار قانوني أمام محكمة العدل الدولية. في اليمن، المسار مختلف لأن الخصومة تُدار داخل بنية تحالف قائم تقوده السعودية، ما يجعل أدوات الضغط أقرب إلى التشغيل الميداني والتمويل والشرعية التحالفية، لا إلى المحكمة وحدها. لكن القاسم المشترك واحد: الاتهام الخارجي يُستخدم أيضًا لإعادة ترتيب الاصطفافات الداخلية وتبرير إجراءات استثنائية، ونجاح هذا الخيار لا يُقاس بحدة الخطاب، بل بقدرة الدولة على التنفيذ وبناء بديل مؤسسي يعيد احتكار السلاح والقرار.

 

ولهذا يعود اليمن إلى عقدته الأساسية: لا معنى لأي تصعيد إذا لم يفتح طريقًا لاستعادة حقيقية للقرار الوطني داخل مؤسسات الدولة. المشكلة ليست فقط في تبادل الاتهامات بين الرياض وأبوظبي، بل في نموذج إدارة اليمن الذي حوّل الدولة إلى شرعية معلقة، والسياسة إلى واجهة، والنخبة إلى جزر تبحث عن رعاة، والمجتمع إلى دافع دائم للفواتير.

 

اليمن لا يحتاج إلى رفع السقف ثم تركه يهبط في صفقات مغلقة. يحتاج إلى تغيير سردية العقد الماضي: استعادة الفعل السياسي اليمني من الوكالة، بناء مؤسسة واحدة للسلاح، اقتصاد واحد للإيراد، ومركز قرار واحد للمساءلة. بدون ذلك، ستظل القرارات السيادية أخبارًا عاجلة بلا أثر، وستظل حضرموت والمهرة ساحة اختبار، وسيظل الحوثي المستفيد الأول من انقسام خصومه، وسيظل اليمنيون يدفعون ثمن أخطاء الآخرين وطموحاتهم—بالأسماء نفسها، وبالخسائر نفسها، وبالمعنى نفسه.


التعليقات