في الذكرى السادسة لثورة الحادي عشر من فبراير، يتذكر شباب الثورة تلك الأيام النضالية الجميلة التي رسموا بها خطوط الحرية، وقدموا فيها زهرات وخيرة شبابهم، الذين كونوا بأجسادهم جسر عبور للمستقل.
ومن وحي ثورة فبراير وسيرتها كانت هناك محطات مفصلية وهامة في هذه المسيرة، حيث أسقطت أقنعة الوجوه المزيفة، وأبانت عن جوهر الشعب الحي والوجوه الحقيقية له. صحيح أن محطات الثورة كانت كثيرة وهامة إلا أن بعضها كانت الأهم على الإطلاق ترتبت عليها مواقف سياسية هامة في مسيرة الثورة، ونرصد هنا أهم هذه المحطات المفصلية في ثورة 11 فبراير.
جمعة الكرامة
في الثامن عشر من مارس عام 2011 كانت حشود الثوار تؤدي صلاة الجمعة بكل طمأنينة وكل واحد منهم يأمل في المستقبل القريب الذي يمكن أن يصل إليه عبر هذه الثورة المباركة، وفي خضم تلك الآمال العريضة التي كانت تملأ قلوب اليمنيين جميعاً، إذ بيد الغدر للرئيس المخلوع صالح تطال شباباً عزلاً إلا من إيمانهم بالقيم التي خرجوا ينادون بها في شوارع اليمن لتغيير الواقع اليمني البئيس، وسقطت كرامة المخلوع ونظامه مع أول قطرة دم طاهرة لأولئك الشباب.
وتحول ذلك اليوم إلى كابوس في اليمن وتوشحت اليمن السواد في ذلك اليوم، فما من مديرية من مديريات الجمهورية إلا كان لها نصيب من ذلك اليوم من شهيد أو جريح.
وتعد جمعة الكرامة في 18 مارس أقوى وأبرز محطة للثورة اليمنية ويوماً مأساوياً للثورة والثوار في أنحاء اليمن ووحشياً في حياة نظام علي عبدالله صالح ضد معتصمين عُزلاً مسالمين لم يكونوا حتى في وقت مواجهة أو استفزاز أو حتى مظاهرة، وهي يوم فرقان بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
كان مخططاً لهذا الهجوم سلفاً بكل الوسائل وبطرق عسكرية وحشية قمعية تؤكد أن من وضع خطة الهجوم كانوا عسكريين مدربين تدريباً عالياً.
وقام مسلحون ورجال أمن يمنعون الوصول إلى ساحة التغيير من ناحية الجامعة القديمة، فضلًا عن سكان حارات شارع 20 الذين قاموا بعرقلة تدفق المصلين إلى الساحة.
لم يكد المحتشدون يكملون صلاة العصر جمعاً بعد أداء صلاة الجمعة والناس بمئات الآلاف، وإذ بأجهزة صالح تشعل إطارات السيارات على جدار الشارع الذي بنته لعزل المعتصمين في الساحة وتصب البنزين على الجدار وتشعله، مما شكل سحابة من الدخان الأسود الكثيف، لكي لا يرى المعتصمون مصادر إطلاق النار، ثم بدؤوا بمباشرة الهجوم على المعتصمين وعلى اللجان الأمنية التي تحرس مداخل الساحة.
أطلقت النار بشكل عشوائي ومنظم وسريع، وكان القناصون يتعمدون القتل لا الإصابة؛ فقد كانوا يصوبون رصاصاتهم على الرؤوس وعلى الصدور وعلى الأعناق للمعتصمين.. سقط الشهداء سريعاً الواحد تلو الآخر، واستُهدف المصورون على وجه التحديد لأنهم الشهود بعدسات كاميراتهم، واستُهدف حفاظ القرآن الكريم، كما استُهدف غيرهم.
كانت أرقام الإصابات بالمئات، والشهداء بالعشرات، ومن مختلف الفئات العمرية، وتوزعت المصائب على مختلف المحافظات اليمنية، غير أن محافظة تعز كان لها النصيب الأكبر؛ إذ استشهد من أبنائها في تلك الحادثة 15 شابًا، وبقية الشهداء موزعين على محافظات عمران وصنعاء وذمار وإب والمحويت والضالع.
قرابة خمسين شهيداً مدنياً سقطوا ذلك اليوم ووصلت الإصابات أكثر من 300 إصابة بالرصاص الحي وأكثر من 500 بإصابات أخرى.
وعقب المجزرة، وللتغطية على الجريمة، أعلن علي صالح حالة الطوارئ في البلاد، واتهم مسلحين مندسين بين المعتصمين بتنفيذ هذه المجزرة، كما اتهم أهالي الأحياء المجاورة بقتل المعتصمين، ونفى عن الشرطة والأمن تنفيذ هذه المجزرة بينما كان ملايين الناس في العالم يشاهدون قوات الأمن بعرباتها المدرعة ومسلحين بزي مدني يرتكبون تلك المجزرة، وأعلن صالح يوم الأحد يوم حدادٍ على سقوط شهداء الكرامة.
بعد تلك المجزرة البشعة بحق المصلين تهاوى نظام صالح وبدأت الاستقالات من نظام صالح وانضمامها للثورة تتوالى على كل المستويات عسكرياً وسياسياً وديبلوماسياً وفي كل المؤسسات المدنية الأخرى. وكانت أبرزها انضمام الفرقة الأولى مدرع وقائدها اللواء الركن علي محسن صالح، وكافة الألوية التابعة لها عدا اللواء الرابع مدرع المكلف بحماية الإذاعة والتلفزيون ووزارة الدفاع ورئاسة الوزراء.
أخدود تعز (إحراق ساحة الحرية)
لم يكد علي صالح يفلت من جريمة مجزرة الكرامة في صنعاء حتى بدأ بتفريغ حقده الدفين على تعز وإصدار الأوامر بإحراق ساحة الحرية في التاسع والعشرين من مايو 2011، فقامت قواته ومليشياته بمحاصرة ساحة الحرية من كافة المداخل والبدء بإطلاق النار على المتظاهرين من مقر مديرية المظفر، لتتلوها خطوة إطلاق القنابل الغازية بكثافة على المتظاهرين ومن ثم الشروع في الاقتحام وتنفيذ المحرقة في المواطنين المتظاهرين.
ولم يعرف بالضبط في بداية المحرقة عدد من استشهد في تلك المحرقة؛ فقد تضاربت الروايات بين 50 إلى 62 شهيداً وألف جريح.
وتفحمت بعض الجثث لمعاقين كانوا يسكنون المخيم لم يستطيعوا الهروب من الخيام. غير أن الأرقام النهائية التي وصلت للمستشفى الميداني كانت 13 شهيداً فقط وبقية الأعداد بُلِّغ عنها كمفقودين. وتم اختطاف واعتقال ما لا يقل عن خمسمائة من المعتصمين وفقدان البعض منهم.
لقد فقد صالح ونظامه في هذه المحرقة ما تبقى لديه من أخلاقيات يمنية معروفة، بل إنه أوعز لمليشياته الاحتفال في صنعاء ابتهاجاً بإحراق الساحة؛ فأطلقت الألعاب النارية في الهواء وخرجت تلك المليشيات تهتف لإحراق الساحة وضد أبناء تعز في شوارع هائل و16 وما جاورها، كما هتفوا لإحراق ساحة التغيير بصنعاء. وكان منظر ذلك الاحتفال أشد إيلاماً على النفس من حادثة الإحراق ذاتها.
وبعد تلك المحرقة تحولت تعز كلها إلى ساحة اعتصام مفتوحة في كل شوارعها ومداخلها، و مثلت محرقة تعز محطة فارقة من محطات الثورة الشعبية اليمنية خاصة في الجانب السلمي منها.
وكانت المحرقة وقبلها قصف الحصبة والغدر بآل الأحمر ولجنة الوساطة فيما سمي بالعيب الأسود يومها في الخامس والعشرين من مايو 2011 إيذاناً بانتهاء سلمية الثورة ولو من جانب واحد هو جانب نظام علي صالح الذي ما فتئ يحاول المحاولة تلو الأخرى جر الثوار إلى مربع العنف والحرب، خاصة مع تزامن محرقة تعز مع الحرب على الحصبة والتصعيد وقصف أرحب ونهم والحيمة وتسليم أبين لتنظيم القاعدة.
توالى حقد المخلوع صالح على تعز فعزز عملية الحرق تلك ببدء شن حرب شاملة على تعز بكافة الأسلحة الثقيلة في مواجهة مدينة مدنية معزولة من السلاح، حتى أفرغ عليها حقده الدفين، فقصف المدينة المكتظة بالسكان في كل الأحياء والشوارع ولم تسلم منه حتى المستشفيات؛ إذ قصف الجرحى في مستشفى الروضة واقتحمت قواته مستشفى الصفوة وداسوا المصاحف واختطفوا الجرحى من ذلك المشفى يوم المحرقة، وقصف بالدبابة مصلى النساء يوم الجمعة 11/11/2011، وسقطت العديد من المصليات شهيدات في الساحة في جرم شاهده العالم أجمع.
ومع دخول حرب الحصبة، وتسليم صالح أبين للقاعدة والحرب فيها وكذلك الحرب في أرحب ونهم والحيمة ومحرقة تعز واستمرار قصف الحرس لتعز وساحة الحرية، لم يحد الشباب عن سلمية الثورة، وتحول الأمر من الهجوم الثوري إلى الدفاع عن الساحات واستردادها في تعز.
ودخلت الثورة مرحلة الجمود السلمي وانتقل زمام المبادرة من الشباب إلى القيادات السياسية في المعارضة، ومثلت المعارضة الجانب السياسي واستلمت قيادة الجيش الموالية للثورة والقبائل الملف العسكري، وارتبط التقدم والحسم الثوري بالحسم العسكري والتقدم في أرحب وتعز على الجبهات القتالية.
تسليم أبين للقاعدة
لم يكن ما جرى بمحافظة أبين من خلال تسليمها للقاعدة بعيداً عن حبكات المخلوع صالح وألاعيبه المكشوفة لصرف أنظار المجتمع الدولي عن الضغوط عليه أو دعم الثورة السلمية. إذ عمل علي صالح على محاولة خلط الأوراق على الثورة وقام بتسليم محافظة أبين للقاعدة بعد أن سحب كل قواته من هناك في الثامن والعشرين من مايو 2011.
وقد أراد صالح من وراء ذلك دغدغة عواطف الإدارة الأمريكية لاستمرارها في دعمه وبقائه على السلطة وعدم الضغط عليه بالتنحي، لكن ما لم يدركه صالح يومها أنه بذلك التصرف عرف العالم أجمع أن من يقف خلف القاعدة في اليمن هو صالح نفسه، مما جعل الأمريكان يغضون الطرف عن ضغوط المبادرة الخليجية بتنحيه من السلطة وتسليمها لنائبه عبدربه منصور هادي.
وتزامن تسليم أبين للقاعدة من صالح مع شنه الحرب على أبناء الشيخ الأحمر في الحصبة وفي نفس اليوم الذي قام به بإحراق ساحة الحرية بتعز لصرف الأنظار عن تلك المحرقة، أي في يوم السبت 28 مايو 2011.
كل تلك التحركات من قبل صالح جاءت بعد احتفال الثوار بذكرى الوحدة في شارع الستين بتلك الصورة الضخمة ومعها العرض العسكري، مما أفقد صالح أعصابه وقام بشن الحرب على الحصبة باعتبارها قوة الثورة وألقى بورقة القاعدة بعدها على الفور، وقام بتسليم أبين للقاعدة، ثم قيامه بإحراق ساحة الحرية بتعز.
المبادرة الخليجية
أثبتت الحروب المختلفة منذ ذلك اليوم وحتى اليوم أن الحاقدين والمجرمين وإن كانوا ولاة السلطة فإنهم لا يأبهون للسلمية وإنما أغرتهم للمزيد من سفك الدماء، وأثبتت الأيام أن العنف لا يواجهه إلا عنف مضاد مساوي له في المقدار ومضاد له في الاتجاه.
على الرغم من تقدم الأشقاء الخليجيين بالمبادرة الخليجية حرصًا منهم على استقرار اليمن، وإخراج صالح بماء الوجه وضمان حصانته السياسية والمالية، إلا أن كل ذلك لم يشف غليله وأثبت أنه غير جدير بالسلام ولا بالحصانة ولا بالكرم الذي منحته له القوى السياسية المختلفة ودول الخليج، بل إن ذلك شجعه وزاد في إغرائه في المضي بعناده وإجرامه حتى النهاية.
خرج صالح من الحكم صورياً إلا أن جذوره السياسية والعسكرية كانت متغلغلة في كل مفاصل الدولة، ساعده في ذلك الدولة العميقة للإماميين التي كانت إحدى مثالبه التي مكنها لهم في كل مفاصل الدولة ليتحالف الشر ويؤازر بعضه بعضاً والقيام بالانقلاب وشن حرب شاملة على اليمن واليمنيين.
رأت القوى السياسية المختلفة والعالم أن المبادرة الخليجية هي الممكن المتاح للخروج من الأزمة، إلا أن الشباب رفضوها وقبلت بها القوى السياسية المنضوية في إطار اللقاء المشترك، وهي الحامل السياسي للثورة، وذلك حقناً للدماء طالما أنها ستنهي حكم صالح وستعمل على تسوية سياسية ترضي كافة الأطراف، فتم التوقيع عليها في الرياض برعاية الملك عبدالله بن عبدالعزيز في يوم الأربعاء 23 نوفمبر 2011، ومع ذلك استمرت الحرب واستمر صالح في قتل الشباب العزل في المظاهرات وقتل المدنيين في تعز وأرحب ونهم.
وقد كان صالح أثناء التوقيع قال كلمة مهدداً بها ويرسم ملامح عمله لما بعد التوقيع أنه "سنرويكم كيف تكون المعارضة" الأمر الذي لم يأخذه أي طرف على محمل التنبيه لما سيفعله الرجل بعد تنحيه عن الحكم.
لم يكد يمضي شهر على التوقيع حتى بدأت التصفيات السياسية والاغتيالات في العاصمة صنعاء لضباط الأمن ولقادة عسكريين ممن شاركوا في الثورة أو ممن خشي منهم مواقف مساندة للرئيس هادي وحكمه، وتم العمل على كثير من الخطوط لإفشال الرئيس هادي والمرحلة الانتقالية أفضت جميعها إلى الانقلاب فيما بعد.
مسيرة الحياة المسيرة المغدورة
كانت مسيرة الحياة تعد الحدث الأبرز في الثورة بعد جمعة الكرامة؛ إذ أن شباب ساحة الحرية بتعز نظموا مسيرة راجلة من تعز إلى صنعاء تحت شعار عدم التسوية السياسية مع صالح بعد ارتكابه كل تلك الجرائم بحق اليمنيين.
وبدأت المسيرة التحرك يوم الثلاثاء 20 ديسمبر 2011 ووصلت صنعاء يوم السبت 24 ديسمبر، وتم استقبالها بمجزرة مروعة راح ضحيتها 9 شهداء وواحد وستون مصاباً بالرصاص الحي إصابات مختلفة، وثلاثمائة وسبعة وثمانين مصاباً بالغازات السامة.
وتم اختطاف عدد من شباب المسيرة ومنهم فتاتان أطلق بعضهم ومعهم الفتاتان في اليوم الثالث من اختطافهم.
في تلك المسيرة لعب الحوثيون دوراً مشبوهاً لجر المسيرة إلى تلك المجزرة بمحاولة السيطرة عليها وتوجيهها وكذلك ظهور بعض مسلحيهم بشعاراتهم وسط المسيرة، مما أظهر تقاطع مصالحهم وتحالفهم مع علي صالح منذ الوهلة الأولى وخاصة بعد مجزرة جمعة الكرامة، إلا أن هذه المسيرة أكدت على التنسيق بين الجانبين وخيانة الحوثيين الثورة من الداخل.
تم الغدر بالمسيرة وبدل أن تؤتي ثمارها في إيصال رسالتها للعالم تم تشويهها والإساءة إليها من قبل الحوثيين الذين استدرجوها لذلك المنزلق وحرضوا بعض المنضمين إليها لإحداث مشاكل في ساحة التغيير مما جعل وسائل إعلام المخلوع تحتفي بأن الثوار منقسمون ويواجه بعضهم بعضا.