كيف خاض أمل دنقل معركته مع المدينة؟
- إبراهيم هلال الثلاثاء, 03 أكتوبر, 2017 - 09:59 مساءً
كيف خاض أمل دنقل معركته مع المدينة؟

في لحظة صفو وبينما كان يقف الشاعر الراحل أمل دنقل مع صديقه سليمان فياض على كورنيش النيل بالقاهرة، وبينما يلمع ماء النيل تحت ضوء قمر مكتمل الوجه، مال أمل نحو سليمان وحدثه عن سلالته العربية المجيدة، وسمعه سليمان يقول: "أنا حفيد لأحفاد من أحفاد بني أمية الذين لولاهم كرجال دولة، لما قامت للإسلام ولا للعروبة دولة ممتدة من هضاب الهند الشمالية إلى جنوب غرب أوروبا، والتي راحت من بعدهم تتجزأ وتتفتت طوال تسعمائة عام"(1).

ثم أضاف أمل بزهو الفرسان في عصر ولَّى فيه الفرسان: "أنا مرواني لا يزيدي، وأعظمهم عبد الملك بن مروان، أما جدي فكان صوفيا كبيرا بأسوان وما حولها، وأن له ضريحا يُزار، وفي غرب أسوان قرية بالصحراء تحمل اسمي: دنقل" (2)

كان هذا السر الذي أفصح عنه دنقل لصديقه في جوف الليل، وهو مفتاح مهم لفهم التحدي والرفض الذي يملأ شعر دنقل ويصيغ رؤيته للحياة في المدينة وهو ما سيتبين من تفاصيل حياته، وهو ما انعكس قديما أيضا على نظر أقاربه القدامى من العرب للمدينة وشوارعها وقصورها وأسواقها نظرة ريبة وخوف صدرت عن شعور حاد بالغربة عبرت عنه الشاعرة البدوية "ميسون بنت بحدل" التي تزوجها معاوية بن أبي سفيان(3)، ونقلها إلى حاضرة الشام، فثقلت عليها الغربة، وأكثرت من الحنين والوجد إلى حالتها الأولى فقالت:

لبيت تخفق الأرواح فيه
أحب إليّ من قصر منيف
ولبس عباءة وتقرّ عيني
أحب إليّ من لبس الشفوف

وأكل كسيرة من كسر بيتي
أحب إليّ من أكل الرغيف

وأصوات الرياح بكل فج
أحب إلي من نقر الدفوف

وكلب ينبح الطراق دوني
أحب إلي من قط أليف

وبكر يتبع الأظعان صعب 
أحب إلي من بعل زفوف

وخرق من بني عمي نحيف 
أحب إلي من علج عنوف

خشونة عيشتي في البدو أشهى
إلى نفسي من العيش الطريف

فما أبغي سوى وطني بديلا
وما أبهاه من وطن شريف


نظر دنقل للمدينة نظرة تحدي، ورغم ما تلقى منها من خيبات وانكسارات ورغم ما أصابه منها من ويلات وأحزان، أصر أمل دنقل الشاعر الصعيدي المولد والمنشأ، العربي الأصل والدم أن يخوض معركته، معركة الحياة ومعركة الموت مع المدينة العربية الحديثة، حتى لو أذاقته مر الحنظل من كؤوس أوجاعها، فقد أقسم أن يفضح كل تناقضاتها ومآسيها ويتكلم ويصرخ بلسان ضحاياها المشردين داخل أزقتها الضيقة الرطبة المظلمة، وأن يقف وحده جريحا يضرب برأسه جدارها الإسمنتي رغم قسوة أحجاره وكان شعاره:


ربما ننفق كل العمر.. كي ننقب ثغرة 
 ليمر النور للأجيال.. مرة!
ربما لو لم يكن هذا الجدار..
 ما عرفنا قيمة الضوء الطليق!!


لكن ومن خلال معركته الشعرية سيفعل دنقل شيئا في منتهى الخطورة، شيئا سينشر شعره في الآفاق إلى يومنا على الرغم من وفاته في (مايو/أيار) عام1983م عن عمر ناهز 43 عامًا، على سريره بمعهد الأورام بالقاهرة.
  


حيث سيحدد دنقل بشكل دقيق مكان الثورات العربية وسيرسم صورة للربيع العربي قبل اندلاعه بنحو ثلاثة عقود، وسيصف بدقة وحذر كيف سيتعامل الحاكم وحكومته وجيشه وجنوده مع الشعب الثائر من خلال قصيدتين هما: تعليقا على ما حدث في مخيم الوحدات، والكعكة الحجرية، ثم سيرسم دنقل صورة المدينة العربية الحديثة وكيف أصبحت مدينة للاجئين يقف سكانها على درج المقصلة ينتظرون الموت. فكيف قدم دنقل نبوءاته الجغرافية وكيف خاض معركته مع المدينة بخرائطه الشعرية وصوته الواهن ومرضه العضال فقط؟

في الطريق إلى الحرب
كانت البداية لدى دنقل عندما كتب "فاز بجائزة المتفوقين" وهي رحلة إلى بور توفيق في معسكر إعداد القادة، وفي تلك اللحظة ستبدأ رحلة أمل الشعرية ورحلته إلى المدينة حين ألقى قصيدته الأولى عن قناة السويس بعد الانتصار على العدوان الثلاثي عام 1956 والتي يقول فيها(4):


يا معقلا ذابت على أسواره كل الجنود 
حشد العـدو جيوشه بالنار والدم والحديد 
يبغيك نصرا سائغا لبغاته يا بورسعيد
ظمئ الحديد فراح ينهل من دم الباغي العنيد 
قصص البطولة والكفاح عرفتها يا بورسعيد 


كان شعر أمل في بواكيره، لكنه كان ينضح بالحدة والعنف وتملؤه ألفاظ مثل الدم، البغاة، ظمأ الحديد، ينهل من دم الباغي (5).

ثم تفجرت الكلمات في حلق الطفل الأسمر فأصبحت ألسنة حدادا في فم صبي جامح متمرد، يسيطر عليه التوتر والقلق الدائمان، فحين بلغ الطفل أمل ذو الخمسة عشر ربيعا أن زملائه وأساتذته يطعنون في شاعريته ويقولون: إنها أشعار أبيه وأن أمل قد انتحلها ونسبها لنفسه، أخذ أمل في تنظيم قصائد من نوع مختلف، قصائد من هجاء مقذع لكل هؤلاء الذين رددوا تلك التهمة، "وحفلت هذه القصائد بألفاظ جارحة وأوصاف شنيعة، بصورة ربما لا يجرؤ على الإتيان بمثلها كبير ولا صغير فأيقن الجميع أنهم أمام شاعر حقيقي"(6)

واستمر دنقل في كتابة قصائد الهجاء لمجتمعه الصعيدي الصغير، حتى شعر أن مجتمع الصعيد أصبح ضيقا عليه ثم أقنعه أصدقاؤه خاصة عبد الرحمن الأبنودي ويحيى الطاهر عبد الله بالسفر للالتحاق بكلية الآداب بالقاهرة، بيد أن العاصمة التي قهرت الغزاة قديما واستعصت على جيوشهم، ستفتح بابها العريق ليدخل منه دنقل فرحا مستبشرا، إلا أنها ستسحقه في دوامة شوارعها وزحمتها وأضوائها، فكيف نظر دنقل للمدينة وكيف وجدها؟


الجولة الأولى.. الجنوبي مقهور
جاء أمل من الصعيد محملا بهمومه، غارقا في عرقه، فقد صاغت البيئة الصعيدية الصحراوية الجافة شعر أمل وأعطته منظارا يرى به الحياة، فكان للموقع الجغرافي أثره البالغ في رسم معالم شخصيته، حيث اكسبته الحدة إلى جانب القدرة على التأمل بمخيلة صافية، وكان للصحراء الممتدة على امتداد البحر الدور الرئيس في إضفاء الشفافية عليها، حيث يقول أمل: "ربما بسبب البعد والعزلة.. الوادي يضيق بحيث إذا رفعت بصرك بعيدا رأيت الصحراء تعطي الإحساس المطلق.. في المدينة يبقى الشاعر جماليا أو غنائيا.. لكنه لا يحس بحدة المفارقة بين الكائنات، وأهم سمات الفرق بين شعراء الصعيد وشعراء الوجه البحري.. الحدة" (7)



كتاب الجنوبي - أمل دنقل (مواقع التواصل)

وعلى هذا المنوال، راح دنقل يدون قصائده الأولى في القاهرة، حيث كان انتقال دنقل من "الريف إلى المدينة انتقال من الظل إلى النور" (8)، وكانت تلك القصائد الأولى تتسم بالطابع العام المباشر والهجاء الواضح على حساب فنية القصيدة(9)، وكانت موضوعاتها "عن خطباء المساجد، وعن شرطة الآداب، وعن الزحام في شارع فؤاد، وعن السينما وعن الختان والموالد *والزار، وقد اختفت كل تلك القصائد فلم ينشر دنقل منها شيئا"، ويضيف الصحفي أحمد الدوسري: "كانت عبارة عن تنفيس له، ومنبر خاص يعبر من خلاله عن سخطه من تلك الأشياء المتناقضة في حياة المدينة"(10)

ورغم ما تحكيه قصائد الشعراء النازحين من الريف عن الانبهار والغربة، لم تكن المدينة تمثل صدمة وانبهار لدى الجنوبي حيث يقول: "لا أعتقد أن دهشة ما أصابتني فور وصولي للمدينة.ونحن في الأقاليم كنا نتابع مجتمع العاصمة من خلال المجلات والصحف، ولا بد أن صورة ما ارتسمت في مخيلتنا عن العاصمة، ولم تكن الصورة بعيدة عن الحقيقة، لذا فإن الصراع بيني وبين المدينة لم يكن صراعا بين قيم ريفية وعلاقات مدنية، وإنما كان في جوهره صراع من أجل البقاء"(11)

لكن سرعان ما غرق الجنوبي في دوامة السجالات الأدبية والثقافية على مقاهي القاهرة، فوجد نفسه هو وصديقه الأبنودي راسبين في كلية الآداب، مما جعلهما يتركان الجامعة ويتجهان للعمل، بيد أن العمل الذي ألتحقا به زاد الأمر سوءًا، حيث عمل دنقل كمُحضر للمحكمة ومشرف على تنفيذ أحكامها على الناس، فكان يرى الفقراء وعامة الناس وقد صادرت المحكمة أموالهم وأراضيهم، فينصرف عنهم لتلاحقه دعواتهم عليه وسبابهم (12)

ووسط كل ذلك اكتشف دنقل الذي جاء يبحث عن المعرفة والتجربة سمات الزيف داخل العاصمة، حيث يقول: "لا أعتقد أن المدينة تنظر إلى الصدق والزيف باعتبارهما لونين متضادين، إنما هما في المدينة -حيث تنتقي النظرة الأحادية- وجهان لعملة واحدة، فالمدينة لا تعترف إلا بالزيف الصادق أو الصدق الزائف إذا صح هذا التعبير. فالمدينة لا تحتمل اللون الواحد، واللون الواحد هو لون الريف، لون السذاجة، وأنا أضيق بالتحديد البسيط للأشياء الذي يسود في الريف" (13) حتى ملّ دنقل الحياة بالقاهرة وسافر للعمل بالسويس ثم الإسكندرية بعد أن هزمته العاصمة شر هزيمة.


الجولة الثانية.. الجنوبي غريبا على الثغور
ارتحل دنقل من القاهرة ليعمل بالسويس ولكنه وجد بالسويس مجتمعا يشابه ذاك الذي تركه وراءه جنوبا، حيث كانت تجمعات المهاجرين من الصعيد إلى السويس من عمال ورجال أتوا للعمل تملأ المدينة وتذكره بمجتمعه الصعيدي، ولم يجد أي دوائر ثقافية يستطيع الاستفادة منها، بل وجد مدينة صناعية تسحق الإنسان/العامل وتعيد تشكيله وفقا لمصالحها(14) فهجر دنقل مدينة السويس وسافر إلى الإسكندرية، ليجد مبتغاه هناك.

وتحت سماء صافية وهواء بارد يلفح الصدر الأسمر الضامر، تفتحت زهرة دنقل الشعرية، وفاح رحيقها حيث كتب أول ديوانه الذي رسم من خلاله ملامح مشواره الشعري، وملامح رؤيته للمدينة وكيف سيستعيد قوته لغزو العاصمة مرة أخرى.

ففي مفتتح ديوانه الأول "مقتل القمر " أهدى دنقل قصائده الأولى إلى "الإسكندرية.. سنوات الصبا" المدينة التي ستكون حاضرة في أغلب قصائده الأولى وصوره الشعرية والتي ستشهد على تجربته واغترابه من الصعيد إلى القاهرة ثم إلى السويس ثم إليها، حيث سيكون امتنانه إلى الإسكندرية التي فجرت موهبته الشعرية وأثقلتها.


كان الديوان الأول لدنقل "مقتل القمر" يصور بشكل رومانسي عذابات الإنسان المغترب، يصور ضياع الشاعر وهيامه. وقد اختار دنقل القمر كمفردة ريفية(15) لكنه كذلك مفردة ساحلية فريدة.



وتناقلوا النبأ الأليم على بريد الشمس
في كل المدينة،
(( قُتِل القمـــر ))!
شهدوه مصلوباً تَتَدَلَّى رأسه فوق الشجر !
نهب اللصوص قلادة الماس الثمينة من صدره!
تركوه في الأعواد،
كالأسطورة السوداء في عيني ضرير
ويقول جاري:
-(( كان قديساً، لماذا يقتلونه؟))
وتقول جارتنا الصبية:
- (( كان يعجبه غنائي في المساء
وكان يهديني قوارير العطور
فبأي ذنب يقتلونه؟
هل شاهدوه عند نافذتي _ قبيل الفجر _ يصغي للغناء!؟

فعلى عكس ما يذكره النقاد(16) أن ديوان دنقل الأول يعبر عن آلام الشاعر الريفي النازح إلى المدينة، يقول دنقل إنه لم يأت بحثا عن الأضواء والشهرة، حيث يقول: "هاجرتُ إلى المدينة لأنني لم أترك قريتي للعاصمة بحثا عن الشهرة أو المجد وإنما هاجرت بحثا عن المعرفة في عالم أكثر تعقيدا، وأنا أرى أن المدينة مليئة بالطبقات التي ما تزال القيم البدائية تعيش في وجدانها كما أن الريف مزدحم أيضا بالعناصر التي تجعل تبادل المنفعة شرطا أساسيا للتعامل مع الإنسان".

ولذلك، وعلى عكس أحمد عبد المعطي حجازي والشعراء الذين سبقوا دنقل، لم يأت شعر دنقل للصدام مع المدينة لكن لتأملها، فدمج دنقل في أول ديوان له بين مفردات صوفية وريفية وقبلية (17) وبين مفردات تخص المدينة وحدها، ومن خلال الألفة بين الشاعر والقمر كباب للمعانقة الكونية تتفجر كارثة الضياع في انهيار المدن التي تقتل الكوني في الإنسان وتخنقه داخل الطوابير والازدحام.



وخرجت من باب المدينة
للريف:
يا أبناء قريتنا أبوكم مات
قد قتله أبناء المدينة
ذرفوا عليه دموع أخوة يوسف
وتفرَّقوا
تركوه فوق شوارع الإسفلت والدم والضغينة
يا إخوتي: هذا أبوكم مات !
ماذا؟ لا..أبونا لا يموت
بالأمس طول الليل كان هنا
يقص لنا حكايته الحزينة !
يا أخوتي بيديّ هاتين احتضنته
أسبلتُ جفنيه على عينيه حتى تدفنوه !
قالوا: كفاك، اصمت
فإنك لست تدري ما تقول !
قلت: الحقيقة ما أقول
قالوا: انتظر
لم تبق إلا بضع ساعات...
ويأتي!


فالشاعر يستعير الأبوة للقمر بما فيها من حماية ومسئولية يفتقد لها الشاعر في غربته وبما في القمر من جمال كوني يعود للطبيعة التي يفتقدها في شوارع المدينة، فكان الشاعر يناديهم "يا أخوتي"، كما أن نفي الفعل "لا يموت" بالحرف "لا" بدلا من "لم" جعل نفي الموت موجها للمستقبل(18)، ويعبر عن الحماية القروية التي يدافع عنها إخوة الشاعر وقومه وانتمائهم للقرية، وموت القيم في المدينة وفقدان الانتماء أو زيفه على الأقل (18).
   

 
أما في ديوانه الثاني "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" ينتقل دنقل إلى جدلية المدينة(19) بعد أن فرغ من تأملاته الرومانسية والصوفية وتغلب على أشواقه، ليتعلم كيف يعيش جنبا لجنب مع أحزانه وآلامه، فجاءت قصيدته "إجازة فوق شاطئ البحر" تعبيرا عن انتباهه لتلك الجدلية، "حيث يدور الصراع بين الشاعر ومعطيات المدينة رفضا وقبولا من خلال لوحات يصطرع فيها الشاعر مع المدينة، والصراع فيها متكافئ فتقول اللوحة الأولى:

وفي الصبح: نرفع راياتِنا البِيضَ للبحر مستسلمِينَ
لينخَرَنا الملحُ، يمنح بشرتنا النمشَ البرصِي
ونفرش أبسطة الظهر،نجلس فوق الرمال
نمرح في حزننا الغامض الشبقي..لكي يتوهج
(حين هممنا بإمساكه احترقت يدنا)،
نتلمس ثدي البكارة..كيف تجفٌ النضارة فيه
فيفرزُ سُما..ودودا يعبث بتفاحة معطبة!


فيبدأ الشاعر لوحته كأنها صورة سينمائية فيحددها بالزمان (الصبح)، فالمكان (البحر)، والمكان مفتوح ومتناهٍ في الكبر، ومن خلال وصف المكان يفرض الشاعر بطريقة سينمائية صفتي الإغراء والسيطرة على الصورة، فلا يملك الإنسان أمام هذا المكان إلا أن يرفع الراية البيضاء مستسلما للبحر، كأنه يعلن انتصار المدينة، وكأن المدينة تبدو كبحر شاسع يغرق فيه الإنسان(20)

إلا أنه يلحق آفة بكل نعم البحر، فملح البحر ينخر، والنمش برصي والاسترخاء قبالة المتناهي في الكبر إنما هو أطروحة حزن شبقي غامض يعز على التناول، وثدي البكارة جاف يفرز سما كتفاحة معطوبة يعبث فيها الدود (21)

فيظهر صراع الشاعر الداخلي مع المدينة عبر صور بعيدة الغور لكنها ممزوجة مع صور أخرى واقعية، فالحزن الغامض الشبقي صورة نفسية غير تقليدية مليئة بشحنات متعددة، فالحزن يخترم النفوس، وغموضه ليس غموضا شعريا تحبه النفس وتبحث عنه، بل هو جارح مؤذ لا يستطيع التعبير عن نفسه ولا عن جرحه، لأنه شبقي وما في ذلك من جنس حاد يهيج جرحه ملح البحر، ويحترق فيه الشاعر احتراقا داخليا غير معلن، احتراق الجسد المنهوم، أمام غابة من العرايا وقد سلخها من ثيابها جزار البحر.


وفي الليل نخفض راياتنا.. ننقض الهدنة الأبدية
نجرؤ أن نتساءل هل "نحن موتى؟"
و جولاتنا في الملاهي .. اهتزازاتنا في الترام..
تلاصقنا في ظلام المداخل.. 
ذبذبة النظرات أمام المعارض والعابرات الرشيقات..
مركبة الخيل حين تسير الهويني بنا.. الضحكات والنكات:
بقايا من الزبد المر.. والرغبة الذاهبة؟!!
"تُرى نحن موتى..."
وننشب أنيابنا في الطيور المهاجرة المتعبة!!


ووسط هذا الغرق والاحتراق الذي يسبب دهشة الشاعر وذهوله يأتي الليل بصوره المتعددة فيزيد الأوجاع، ينقل الشاعر في لوحات الليل صور من مفردات المدينة منتقاة من واقع حياة المصطافين والمغتربين، يتخلل اللوحات خط أسود رفيع يُنقش فوقها سؤال عن الموت، وهو سؤال يشكك في الحياة نفسها(21)، ويلقي بظلال كئيبة تقلل الفرح والبهجة في الصور، ويتسلل بحثا عن عمق ما في فلسفة الحياة "بقايا من الزبد المر والرغبة الذاهبة" فهل كل شيء باطل أو زائل؟ أم أن حياة المدينة ستبتلع كل شيء لتبقى ويرحل الإنسان!

وفي لغة التضاد يطفو الطباق بين الصباح والليل، ثم رفع الرايات وانخفاضها، والطباق هنا ليس حلية لفظية بل صورة لخصومة مشتبكة في نفس الشاعر بين قبول المدينة ورفضها(21)، وهي خصومة ستنحل في الشاعر الواعي بالقبول، ولكنه قبول ممهور بأقصى ما يتفجر عنه المكان من الموت في الغربة، سيقبل الشاعر بالموت ليجدد جلده ويحيا، ويقبل ويتصالح مع صراعه مع المدينة بحثا عن الحياة.


صديقي الذي غاص في البحر.. مات!
فحنطته.. واحتفظت بأسنانه.. 
كل يوم إذا طلع الصبح: آخذ واحدة ..
أقذف الشمس ذات المحيَّا الجميل بها..
وأردد:" يا شمس أعطيك سنته اللؤلؤية 
ليس بها من غبار.. سوى نكهة الجوع!!
رديه رديه.. يرو لنا الحكمة الصائبة"..
و لكنها ابتسمت شاحبة!
وكان على البحر راية حزن، وغضبة ريح،
ونحن-مع الصمت- نحمل جثمانه فوق أكتافنا..
قم نهبط في طرقات المدينة.. نستوقف العابرين..
نسائلهم عن طريق المدافن..والرحلة الخائبة!
لكننا في النهاية.. عدنا إلى شاطئ البحر.. والراية الغاضبة

بعدما تصالح دنقل مع صراعه الداخلي في المدينة، يسجل ديوانه الثاني "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" تحول شعره إلى المواضيع العامة، مواضيع تمس الشأن العام والواقع الاجتماعي والسياسي، ففي أثناء تلك الفترة وبينما استعاد قوته بعد خيبته الأولى عاد دنقل مرة أخرى للقاهرة لكن هذه المرة بنية الفتح!(22)



الشاعر الراحل أمل دنقل كان يكره الزيف وينشد الحرية  (مواقع التواصل)

ففي قصيدته "يوميات كهل صغير السن" يسن دنقل سيوفه العربية القديمة مستعدا لمعركة فضح كل مظاهر الزيف والتكلس والنفاق ليس في القاهرة فقط بل في كل مجتمعات المدن العربية المعاصرة، فيرسم بحد السكين ملامح المعاناة في الواقع العربي داخل المدينة، فيقول في المقطع السابع من قصيدته:

تدق فوق الآلة الكاتبة القديمة
وعندما ترفع رأسها الجميل في افتراق الصفحتين
تراه في مكانه المختار.. في نهاية الغرفة
يرشف من فنجانه رشفه
يريح عينيه على المنحدر الثلجي، في انزلاق الناهدين!
(.. عينيه هاتين اللتين
تغسل آثارهما عن جسمها - قبيل أن تنام - مرتين!)
وعندما ترشقه بنظرة كظيمة
فيسترد لحظةً عينيه: يبتسم في نعومة
وهي تشد ثوبها القصير فوق الركبتين!
.............................
 في آخر الأسبوع
كان يعد - ضاحكًا - أسنانها في كتفيه
فقرصت أذنيه..
وهي تدس نفسها بين ذراعيه.. وتشكو الجوع


في السطر الأخير من المقطع يلقي دنقل مسحة تفسيرية على صورة الموظفة في المدينة، فهي تنهزم بسبب الجوع، وتعاني من حياة المدينة، لكنها لا تنجح في تفسير الهزيمة، بل تخل بالنموذج العصري الذي ابتدعه الشاعر(23) وكذلك الأمر مع المرأة في المقطع التاسع التي قالت:


(.. أنفقتُ راتبي على أقراص منعِ الحمل!)
ترفع نحوي وجهها المبتل..
تسألني عن حل!
...........................
هنأني الطبيبُ! حينما اصطحبتها إليه في نهاية النهار
رجوته أن يُنهي الأمر... فثار(.. واستدار يتلو قوانين
العقوبات علىّ كي أكفَّ القول!)

هامش:

أفهمته أن القوانين تسن دائما لكي تُخرق
أن الضمير الوطنيَّ فيه يُملي أن يقل النسل
أن الأثاث صار غاليًا لأن الجدبَ أهلك الأشجار
لكنه.. كان يخاف الله.. والشرطةَ.. والتجار!


فمنذ أن عرفت المرأة طريق العمل لم يعد الجوع مبررا للسقوط، وإنما المبرر لهذا السقوط يكمن في طموحات أبعد، إلى الرخاء وربما مجرد الاستمتاع(23)، حيث ربط المقطع الصورة الاجتماعية بارتفاع الأسعار، مع الفقر العام وحالة التخلف التي تسود المجتمع والتي ينقم عليها الشاعر بشدة، فيضرب المشهد بجذوره في أعماق المدينة، ويرسم لوحة تحتوي كل العناصر التي تجعل من المدينة ما هي عليه، مما يجعلها كما قال روزنتال: "قطعة متحركة من موسيقى الوعي، متمكنا منها كل التمكن" (24)

ثم سيأخذ دنقل خطوة أخرى للأمام في معركته حيث سينتقل من فضح الزيف الاجتماعي وتصويره إلى الدخول بقصائده إلى بيت مخطوطات السياسة وهي المرحلة التي سيصل فيها شعره إلى ذروة عنفوانه.


عاد دنقل للقاهرة مرة أخرى بعد أن نضجت زهرة شعره لا لينتقم من مدينة أذاقته مرار الخيبة بل ليفتحها ويحيا بها، وهو يرى مجتمعها وقد أصابه المرض والعفن فأفصح عن مظاهر الزيف داخلها حيث يقول: "شعري هو شعر اجتماعي بالدرجة الأولى -لا يفصل بين الريف والمدينة في مواجهة الأحداث- كلاهما بتخلفه ضحية، وكلاهما مدان لكن الظاهرة الملفتة للنظر أن قيم البرجوازية المنحلة تستشري بين بعض المثقفين ولكن أسباب ذلك مفهومة، إذا راجعنا تاريخ الحركة الثقافية في السنوات الأخيرة "

فانتقل دنقل سريعا من الحديث عن صورة العاهرة في مكاتب الموظفين والزيف الذي يملأ المجتمع، إلى تصوير نوع آخر من العهر وهو العهر السياسي فافتتح ديوانه الرابع "العهد الآتي" بصلاة يؤديها دنقل بسخرية إلى "المخبر" الذي اكتسب من عمله طغيانا وجبروتا، فتأله بمقتضاهما في الأرض، فيقول:

أبانا الذي في المباحث. نحن رعاياك باق لك الجبروتُ

وباق لنا الملكوت

وباق لمن تحرس الرهبوت
تفردت وحدك باليسر. إن اليمين لفي الخسر.

أما اليسار ففي العسر. إلا. الذين يماشون.

إلا الذين يعيشون يحشون بالصحف المشتراة

العيون.. فيعيشون إلا الذين يشون. وإلا

الذين يوشُّون ياقات قمصانهم برباط السكوت!


فيقول دنقل عن تلك النقلة إلى السياسة في شعره: "بدأت علاقتي بالتفكير في هذه الأمور عندما حضرت إلى القاهرة، وكانت هي نفس السنة التي اعتقل فيها الشيوعيون عقب خلاف عبد الناصر مع عبد الكريم قاسم. ورغم أنني لم أكن متعاطفا مع الشيوعيين إلا أنني رأيت أن لجوء الحاكم إلى مصادرة الحريات يخلق أثارا سلبية عميقة في المجتمع"

لكن، ومنذ ديوان دنقل الثاني "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" سينتبه دنقل أنه غير قادر وحده على محاربة كل ذلك المجاز المتعطن الفاسد داخل المجتمع، فاستعان عليه بمجاز من نوع آخر، مجاز شعري كثيف، بل سيحشد كل أبطاله الأسطوريين وكل معارفه وأقاربه وأصدقائه من سبارتاكوس وزرقاء اليمامة وكليب والمتنبي وصلاح الدين وكافور إلى أوديب والمغول وقيصر وسيزيف وهنيبعل والبرامكة وحسن الأعصم والأَنصار وقريش وسالومي والثقفي، ثم سيطلقهم دنقل داخل شوارع القاهرة كأنهم منشورات منحوتة تغطي سماء المدينة، أو أشباح تطارد الفساد بأروقة الدولة.


فمنذ ديوانه الثاني بدأت مرحلة التنبؤ الشعري لدى دنقل بالكوارث التي ستحل على كل المدن العربية بسبب غياب الحرية والعدل، وفي مجموعة قصائد أرخ لها دنقل قبل هزيمة 1967، جعل دنقل زرقاء اليمامة الشخصية التراثية الشهيرة عينه في رؤية مستقبل مرعب ستؤدي إليه سياسة القمع والاضطهاد، ففي قصيدة "كلمات سبارتاكوس الأخيرة" المؤرخة في عام 1962، يتوارى الشاعر خلف قناع البطل ويثور على الطغيان فكان جزاؤه الموت شنقا.



معلّق أنا على مشانق الصباح
جبهتي - بالموت - مَحَنِيّه
لأنّني لم أحنها.. حيّه !
......
يا إخوتي الذين يعبرون في الميدان مطرقين
منحدرين في نهاية المساء
في شارع الإسكندر الأكبر
لا تخجلوا..و لترفعوا عيونكم إليّ
لأنّكم معلقون جانبي.. على مشانق القيصر
فلترفعوا عيونكم إليّ
لربّما.. إذا التقت عيونكم بالموت في عينيّ
يبتسم الفناء داخلي.. لأنّكم رفعتم رأسكم.. مرّة!
"سيزيف" لم تعد على أكتافه الصّخرة
يحملها الذين يولدون في مخادع الرّقيق
و البحر.. كالصحراء.. لا يروى العطش
لأنّ من يقول "لا" لا يرتوي إلاّ من الدموع!
.. فلترفعوا عيونكم للثائر المشنوق
فسوف تنتهون مثله.. غدا

يقف الشاعر وسط أبطاله التراثيين ويعزف لحن الموت في المدينة، وكأنه يعلن موتها قبل أن تموت رسميا، فيقول معددا مستحدثات المدينة الملونة بأشكال التدمير، في قصيدته "بكائية الليل والظهيرة":


كان الطريق يديرُ لحنَ الموتِ - كان جهنميَّ الصوت -
فوق شرائط التسجيل..
في أسلاكِ هاتِفِهِ المحنَّك..
في صرير الباب من صدأ الغوايةِ..
في أزيز مراوح الصيف الكبيرةِ..
في هدير محرِّكات " الحافلات ".
وفي شجار النسوة السوقيِّ في الشرفاتِ..
في سأمِ المصاعد..
في صدى أجراس إطفائيةٍ تعدو.. مصلصلة النَّداء.
(.. كوني إذن ما شئتِ:
ساقطةً تدور على مواخير الموانئ،
وجه راهبةٍ تضاجع صورة العذراءِ،
أمًّا تأكل الأطفالَ..
كوني أيَّ شيءٍ - فيه نغمس خبزَنا الحجريَّ - ملتهب الدماء!)

أما في العام التالي، فسيفصح دنقل عن صك الوفاة ويعلقه على أحد بوابات المدينة العربية العريقة، فكتب قصيدته "العشاء الأخير" ويعتمد دنقل فيها على لغة الرمز المكثفة دامجا بين الشاعرية العزبة وبين الصور الحادة والمؤلمة، كموسيقى تعزف على ألحان أصوات السيوف وصرخات القتلى، أو كصوت جميل لأمواج البحر يسري في الكون أثناء غرق سفينة مزخرفة.

أعطني القدرةَ حتى أبتسم..
عندما ينغرسُ الخنجر في صدر المرح
ويدبُّ الموتُ، كالقنفذ، في ظلِّ الجدار
حاملا مبخرة الرعب لأحداق الصغار
أعطني القدرة.. حتى لا أموت
منهكٌ قلبي من الطرق على كل البيوت
علَّني في أعين الموتى أرى ظلَّ ندم!
فأرى الصمت.. كعصفور صغير
ينقر العينين والقلبَ، ويعوي..
في ثنايا كلِّ فم!

فيشير دنقل إلى الحرية بكلمة "الرياح" ويرمز للسلطة العسكرية بـ"المماليك" التي تحولت من ميدانها الحقيقي في قتال العدو الصهيوني واتجهت لخنق الحريات ومطاردتها في الحواري والأزقة، وقد اختبأت الحرية في "قبو" وقام أفراد الشعب بالتستر عليها، ووقفوا على بابها يحرسونها، غافلين عن حقوقها حتى تصبح جثة هامدة، فنعى الشاعر الحرية في المقطع رقم 3 من القصيدة ببيت يكاد يكون إعجازا في كثافته(25):



(يفرض الرعب الطمأنينة في ظل المسدس)
(1)
" الرياحُ " اختبأت في القبو، حتى تستريحْ..
.. فيه من أرجحة الأجساد فوق المشنقه.
ووقفنا نحرس الباب، ونحمي الأرْوقه
بينما خيل المماليك تدق الأرض بالخطو الجموح
يقتفون الأثرا
يسألون الدرب عن خطوة ريح فيه، عن أية ريح!
فنغصّ البصرا
ومضوا، والسنبكُ المجنون يهوي، فيصب الشررا
وتواروا في الحواري الضيقة
.. نحن عدنا نحمل البشرى لها
وهتفنا باسمها
وهززنا كتفيها، عبثا..
وتدلت رأسها في راحتينا.. ميتة!
نحن كنا نحرس الباب، ونحمي.. اللافتة
وهي - تعويذتنا - لم نحمها!

(3)
.......
(يفرض الرعبُ الطمأنينة في ظل المسدس..)
- الطمأنينةُ في ظل الحداد؟!
- سيدي.. نحن انزلقنا من ظهور الأمهات
بيد تضغط ثقب الجرح..
والأخرى على حرف الزناد!
- 4 -
عندما يبتلع (الكورنيش) أضواء الغروب
تسعل الظلمةُ فيه والبرودة
يحمل الجوعُ إلى العار.. وليده
كلمات..
ثم تنسلُّ من البرد.. لدفء العربات
والمصابيح: شظايا قمر.. كان يضيء
حطَّمته قبضة الطاووس فوق الطرقات
ثم أهدته إلى النسوة.. كي يصلبنه فوق الصدور
يتباهين به.. وهو رفات!
كلمات.. كلمات
ثم تنسل من البرد لدفء العربات
وأنا " يوسفُ " محبوبُ " زليخا "
عندما جئت إلى قصر العزيز
لم أكن أملك إلا.. قمرًا
(قمرًا كان لقلبي مدفأة)
ولكم جاهدت كي أخفيه عن أعين الحراس،
عن كلِّ العيون الصدئة
.. كان في الليل يضئ!
حملوني معه للسجن حتى أطفئه
تركوني جائعا بضع ليال..
تركوني جائعا..
فتراءى القمر الشاحب - في كفيَّ - كعكة!
وإلى الآن.. بحلقي ما تزال..
قطعة من حزنه الأشيب تدميني كشوكة!

وفي ديوانه الثالث والذي يطلق فيه دنقل صيحة الحرب والغضب تحت عنوان "تعليقا على ما حدث"، يعود دنقل إلى إبراز السلبية والقهر والاستبداد في المدينة العربية في قصيدة "في انتظار السيف" وفيها يلتقط رموزه المعبرة عن الحياة العامة ويمنحها دلالات سياسية معينة بعد أن جسدها منحوتة في أجساد شخصياته التاريخية، فبعد أن أجتاح الحسن الأعصم المدينة وقتل أهلها واغتصب نسائها وفرض ضرائبه وأعلن حكمه، يقول دنقل:

وردة فى عروة السّرِة:
ماذا تلدين الآن؟
طفلا.. أم جريمة؟
أم تنوحين على بوّابة القدس القديمة؟
عادت الخيل من المشرق،
عاد (الحسن الأعصم ) والموت المغير
بالرداء الأرجوانىّ.. وبالوجه اللصوصي..
وبالسيف الأجير
فانظرى تمثاله الواقف فى الميدان..
(يهتّز مع الريح.!)
انظرى من فرجة الشبّاك:
أيدى صبية مقطوعة..
مرفوعة.. فوق السّنان
(..مردفا زوجته الحبلى على ظهر الحصان)
أنظري خيط الدم القاني على الأرض
((هنا مرّ.. هنا ))
فانفقأت تحت خطى الجند...
عيون الماء..
واستلقت على التربة.. قامات السنابل
ثم ينتزع الشاعر رموزه الثلاثة: النقد والسوط والصوت، من دلالتها المعجمية ويوحد بينها رغم تباينها، فيشكل منها منحوتا صلصاليا لنظم الحكم الجديدة في المدن العربية، فالنقد سلطة الحاكم الاقتصادية، والسوط عصاه العسكرية، وصوت المذياع إعلام الحاكم، ليبرز الشاعر واقع المدينة بكل شفافية وصدق وصراحة وحدة رغم استخدام الرموز التاريخية والتراثية في شعره.

ثم.. ها نحن جياع الأرض نصطف..
لكى يلقى لنا عهد الأمان.
ينقش السكة باسم الملك الغالب،
يلقى خطبة الجمعة باسم الملك الغالب،
يرقى منبر المسجد..
بالسيف الذي يبقر أحشاء الحوامل.
***
تقفز الأسواق يومين..
وتعتاد على ((النقد)) الجديد
تشتكى الأضلاع يومين..
وتعتاد على السوط الجديد
يسكت المذياع يومين
ويعتاد على الصوت الجديد
وأنا منتظر.. جنب فراشك
جالس أرقب فى حمّى ارتعاشك_
صرخة الطفل الذى يفتح عينيه..
على مرأى الجنود!

وعندما ينتهي دنقل من نوبة غضبه وبعد النكسة بعامين تقريبا، وتحديدا في مارس 1969، كتب أمل دنقل قصيدته "صفحات في كتاب الصيف والشتاء" (26) يرثي لحاله ويبكي على حال المدينة، فكتب دنقل قصيدته من ثلاثة مقاطع: الأول عنوانه "حمامة" وهي حمامة بيضاء رمز الحرية والسلام وقد تكون رمزا للشاعر نفسه، لكنها تسبب إزعاجا للناس والحكومة بالمدينة، فهموا بطردها وعدم السماح لها بالاستقرار.

واختار الشاعر لها ثلاثة أماكن، لكنها تفزع من ثلاثتهم: المكان الأول تمثال نهضة مصر وهو رمز العبق التاريخي، والثاني قبة الجامعة، والمكان الثالث رأس الجسر، ولعله الامتداد بين الماضي والحاضر إلى المستقبل. ويحاول الشاعر مد يد المساعدة للحمامة المفزوعة، " فيضع يده على وسيلة الاستقرار في المدينة وهي الاستسلام والانخراط في ائتلاف غير مقدس مع نظم القهر" وكأنه ينصح الحمامة بوصية سبارتاكوس الأخيرة بالاستسلام والموت


أيتها الحمامةُ التَّعبى:
دُوري على قِبابِ هذه المدينةِ الحزينة
وأنشِدي للموتِ فيها.. والأسى.. والذُّعرْ
حتى نرى عندَ قُدومِ الفجرْ
جناحَكِ المُلقى..
على قاعدةِ التّمثالِ في المدينة
.. وتعرفين راحةَ السَّكينه!

الجنوبي يدعو للثورة بالقاهرة ويحدد المكان والزمان

كتاب أمل دنقل (الأعمال الكاملة) (مواقع التواصل)

اخترق صدى صوت شعر دنقل أروقة الحكم العسكري، وتصاعدت نبرته ضد نظم الحكم العربية جميعا، حين تخطى المحظور وتكلم عن عن خطر الجندي 

عن قلبه الأعمى، وعن همته القعيدة 
يحرس من يمنحه راتبه الشهري 
وزيه الرسمي 
ليرهب الخصوم بالجعجعة الجوفاء 
والقعقعة الشديدة
لكنه.. إن يَحِن الموت.. فداء الوطن المقهور والعقيدة: 
فر من الميدان 
وحاصر السلطان 
واغتصب الكرسي 
وأعلن "الثورة" في المذياع والجريدة!

وفي رأيه أن مكان هذه الذرية اللعينة هو الخنادق والحدود ولا يخطو أحد منهم عتبة المدينة، أما لو دخل واحد منهم المدينة فيدخل أعزل حسيرا:

لو دخل الواحدُ منهم هذه المدينة: 
يدخلها.. حسيرا 
يلقى سلاحه.. على أبوابها الأمينة 
لأنه.. لا يستقيم مَرَحُ الطفل.. 
وحكمة الأب الرزينة.. 
مع المُسَدسّ المدلّى من حزام الخصر.. 
في السوق.. 
وفى مجالس الشورى
أما في ديوانه الرابع "العهد الآتي" يتحول "سفر الخروج" من مصر في العهد القديم، على يد الشاعر إلى خروج مصر على النظام في 18،19 يناير، حيث يراه الشاعر خروج على المنازل و الزنازين والسجون التي تحولت إلى أضرحة (32)، وقد صور الشاعر بشكل سينمائي ساحر وحزين ما يحدث في قبور الشرطة والأمن السياسي حين قال في رائعته "الكعكة الحجرية":

دقتِ السَّاعةُ المتْعبة
نَهَضتْ.. نَسَّقتْ مكتبه..
(صَفعته يَدٌ..
- أَدخلتْهُ يدُ اللهِ في التجرُبة!)
دقَّت السَّاعةُ المُتعبة
جَلسَت أمه..; رَتَقَتْ جوربهْ...
(وخزنةُ عُيونُ المُحقَّقِ..
حتى تفجّر من جلدِه الدَّمُ والأجوبة!)
دقَّتِ السَّاعةُ المتعبة!
دقَّتِ السَّاعة المتعبة!

وتتكرر جملة "دقت الساعة" وهو تكرار منتزع من الواقع، وتعب الساعة آت من الزمن البطيء على الأم التعيسة البائسة، وقد يكون الشاعر قصد بالأم الوطن (27)، حيث يتحول تعب الساعة إلى الحرية البطيئة التي طال انتظارها، "وكلما لمعت بوارقها سرعان ما يقودها الطغيان، وكلما دقت الساعة تقدمت الصورة للأمام خطوة كأنها طبول الحرب تدق، أو جرس المدينة ينذر بالحريق بعد أن أعلن دنقل عن نبوءاته التي ستتحول بعد ذلك إلى حقيقة واقعية حيث ستتحول المدن العربية العريقة والتاريخية إلى مدن للمخيمات واللاجئين، فقال

وغداً تَغْتَدي مُدُنُ الألفِ عامْ.!
مدناً.. للخِيام!
مدناً ترتقي دَرَجَ المقصلة
وتتوالى الصور من لحظة القبض حتى الاعترافات المنتزعة بالقهر، فيقول:

دقت الساعة القاسية
وقفوا في ميادينها الجهمة الخاوية
واستداروا على درجات النصب
شجرا من لهب
تعصف الريح بين وريقاته الغضة الدانية
فيئن: " بلادي.. بلادي "
(بلادي البعيدة!)
......................
دقت الساعة القاسية
كان مذياعُ مقهى يُذيع أحاديثه البالية
عن دعاة الشغب
وهم يستديرون
يشتعلون - على الكعكعةِ الحجريةِ - حول النُّصُب
شمعدان غَضَب
يَتَوَهَّجُ في الليل
والصوتُ يكتسح العتمة الباقية
يتغنى لليلة ميلاد مصر الجديدة!

تتحول هنا دقات الساعة المتعبة إلى دقات قاسية، حيث تصف أحداث حراك يومي 18و19 يناير الذي جاء عقب قرارات اقتصادية قاسية برفع بعض السلع التموينية، وبرغم تراجع النظام عن هذه القرارات لإسكات الثورة، أتخذ دنقل منها شعارا كأنه وجد فيها ضالته فجعلها أمرا عاما، ينسج على منواله صورة كبرى لثورة المدينة التي تعج بالفساد والقهر والاستبداد، ويرسم دنقل لوحة فنية حزينة وكئيبة لكيفية تعامل جنود النظام مع الثورة، وكأنه يرسم لوحة أبدية يقرأها كل الأجيال، استخدم دنقل ألوان الواقع ونثرها على قماش الخيال فأنتج مخطوطة كثيفة التركيب بسيطة المعنى في غاية الدقة والشفافية، تسجل جريمة النظام في كل العصور وتبقى شاهدا على إجرامه.

دقت الساعة الخامسة
ظهر الجند دائرة من دروع وخوذات حرب
ها هم الآن يقتربون رويدا.. رويدا..
يجيئون من كل صوب
والمغنون - في الكعكة الحجرية - ينقبضون
وينفرجون
كنبضة قلب!
يشعلون الخناجر،
يستدفئون من البرد والظلمة القارسة
يرفعون الأناشيد في أوجه الحرس المقترب
يشبكون أيديهم الغَضَّة البائسة
لتصير سياجا يصد الرصاص!
الرصاص..
الرصاص..
وآه...
يغنون، " نحن فداؤك يا مِصْرُ "
" نحن فداؤ... "
وتسقط حنجرة مخرسة
معها يسقط اسمُكِ يا مصرُ - في الأرضِ
لا يتبقى سوى الجسد المتهشم والصرخات
على الساحة الدامسة
دقت الساعة الخامسة
......................
دقت الخامسة
......................
دقت الخامسة
وتفرَّقَ ماؤكَ - يا نهرُ - حين بلغت المصب!
***
المنازل أضرحة، والزنازن
أضرحة، والمدى أضرحة
فارفعوا الأسلحة!
ارفعوا
الأسلحة

وستبقى كلمات دنقل الذي سماه الشباب الثائرون حينها شاعر الثورة(28)، وستبقى على ألسنة الأجيال اللاحقة لتسجل تاريخ حافل بالثورة والتمرد وتكون دعوة دائمة ومتجددة للثورة والحرية ومقاومة الاستبداد. فقد عاش الشاعر أمل دنقل حياة حافلة بالتمرد والبحث والتجارب ومات وهو ينشد فجرا جديدا ويحلم بمدينته كما وصفها في قصيدته "شجوية"

وأرحلُ.. في مُدنٍ لم أزُرها!
شوارعُها: فِضّةٌ!
وبناياتُها: من خُيوطِ الأَشعَّةِ..
ألْقى التي واعَدَتْني على ضَفَّةِ النهرِ.. واقفةً!
وعلى كَتفيها يحطُّ اليمامُ الغريبُ
ومن راحتيها يغطُّ الحنانْ!

وكما يقول دنقل الشعر في جوهره اعتراض وحلم"(29) "فالشعر في جوهره هو إعادة اكتشاف العالم المحيط بك ثم إعادة بنائه كما يجب أن يكون، والشاعر لا يستطيع أن يرى العالم بعين غير عينه وبالتالي لا يستطيع أن يكتشف العالم اكتشافا حقيقيا إلا إذا ارتبط هو نفسه بالواقع الذي يراه وكل ماعدا ذلك إما مستعارا أو زائفا"(30)

أما الشاعر أمل دنقل فكان يكره الزيف وينشد الحرية حتى لو كانت على حطام الواقع!


التعليقات