الروايات العربية لمخطوطات البحر الميت: بين التسامح الإبراهيمي والتآمر
- معهد واشنطن الجمعة, 13 مارس, 2020 - 08:35 مساءً
الروايات العربية لمخطوطات البحر الميت: بين التسامح الإبراهيمي والتآمر

طبيب وكاتب سوري أميركي، مهتم بالواقع السياسي والثقافي والتاريخي في الشرق الأوسط والسياسة الدولية. كتب عدة أبحاث ومقالات نشرت في صحف مثل الشرق الأوسط والقدس العربي وغيرها.

 

في أوائل عام 1947 ألقى راعي بدوي، اسمه محمد التعامرة، حجرا على مغارة مرتفعة في منطقة قمران شمال غرب البحر الميت فسمع صوت تحطم وعاء فخّاري. عاد في اليوم التالي مع أحد أصدقائه وتسلّقا إلى المغارة ليجدا عددا من الأواني الفخارية في داخلها سبعين مخطوطة ملفوفة، منها سبع مخطوطات كاملة من الجلد وورق البردي وبعض القصاصات. وعند اهتمام المتعاملين بالآثار بهذه المكتشفات بدأ التنافس بين السكان المحليين وسلطات الآثار الأردنية للبحث في بقية المغارات، الذي انتهى باكتشاف بين 800 و900 مخطوطة يعود تاريخها إلى الفترة بين عام 150 قبل الميلاد و70 ميلادي.

 

تضمنت مخطوطات البحر الميت كافة أسفار العهد القديم باستثناء سفر إستير، حيث أن الاختلاف بينها وبين المخطوطات العبرية القديمة ضئيل جدا. وتجدر الإشارة بشكل خاص على كتاب أشعيا بأكمله، والذي يسلط الضوء على الدقة التي تميز بها نسّاخ العهد القديم حتى تمكنوا من المحافظة على نصوصهم المقدسة دون تغيير لألف عام. كما تضمنت المخطوطات نصوصا دينية تقليدية من خارج الكتاب المقدس، وتفاسير للكتاب المقدس.

 

على الرغم من أن تلك النصوص كانت لا تقدر بثمن بالنسبة للمتعاملين بالآثار وعلماء الدين، إلا أنها تلعب أيضًا تلعب دورًا هاما في أحد القضايا المعاصرة في الشرق الأوسط الحديث. تؤكد أيضا محتويات مخطوطات البحر الميت على القواسم المشتركة الكبيرة بين الديانات الإبراهيمية الثلاث-الإسلام –واليهودية والمسيحية. هذه الحقائق التي كشفتها مخطوطات البحر الميت لا تتناسب مع الخطاب القومي العربي والخطاب السائد الإسلاميين الذي يرفض تقبّل فكرة وجود مجتمعات تتشارك في القيم، لذلك تراوح موقفه ما بين التشكيك في صحتها إلى تكذيب ما وصلت إليه من نتائج، واعتبارها نتاج مؤامرة.

 

محتويات اللفائف: بداية مشتركة

 

كتب لفافات البحر الميت طائفة يهودية تدعى "الأسينيين"، ظهرت بين القرن الثاني قبل الميلاد والأول الميلادي انشقت عن الطائفتين اليهوديتين الرئيسيتين: الصدوقيين وهم أصحاب الامتيازات والأكثر تعاونا مع الحكم الروماني، والفريسيين. كتبت 80 في المئة من مخطوطات البحر الميت باللغة العبرية و17 في المئة باللغة الآرامية وكتب قليل منها باليونانية. فجماعة قمران التي دوّنت هذه المخطوطات لم تكن سوى جزء بسيط من مجتمع يهودي كبير كانت أورشليم القدس مركزا رئيسيا لوجوده ومدينته المقدسة.

 

مصداقية وصحة نقل التراث اليهودي منذ أيام الأسينيين إلى اليوم أدّت إلى الاستقرار الثقافي في فهم أحداث وتاريخ المنطقة، كما أظهرت محتويات المخطوطات القواسم المشتركة الكبيرة بين الديانات الإبراهيمية الثلاث بما يجعل استمرار الصراعات بينها أمرا غير مبرر لأن الخلافات بينها أقل من ثانوية، حتى أن الكاتب والمفكر يوسف زيدان اعتبر أنها دين واحد.

 

 ويمكننا أيضا أن نرى داخل اللفائف سلالات من الفكر الديني التي ستصبح متطورة في كل من المسيحية والإسلام. وفي الواقع، يحتوي مجتمع قمران، بتركيزه على قدوم المسيح، على العديد من أوجه التشابه مع المسيحية، حتى أن هناك من قال إن الأسينيين هم الطائفة التي سبقت أو التي تنبّأت أو مهّدت لقدوم المسيح.

 

ويعتقد هؤلاء اليهود الأتقياء أن العالم قد ضل خلال الفترة بين العهد القديم والعهد الجديد وقرّبت إلى الأذهان احتمال مجيء المسيح بصورة "معلم بار" مضّطهد من قبل الأشرار وغير مقبول من الكهنة المنافقين.

 

كما أطلقت هذه الطائفة على نفسها اسم العهد الجديد" وأبناء النور "، والتي كان لها نمط حياتها مصدر إلهام لحياة الرهبنة في الأديرة التي تطورت بشكل كبير في المراحل المبكرة من ظهور المسيحية. كذلك فإن يوحنا المعمدان كان قريبا من برّية اليهودية قرب البحر الميت حيث وجد المغطس والتعميد.

 

وبالمثل، اشتركت معتقدات هذه الطائفة مع الدين الإسلامي في رفض عبادة الأصنام وفي الكثير من الطقوس والعبادات والوصايا الأخلاقية، وأغلبية أنبياء العهد القديم المذكورين في هذه المخطوطات مع تفاصيل حياتهم هم أيضا أنبياء في القرآن وفي التراث الإسلامي. وتضمنت المخطوطات قصة صعود أخنوخ للسماء بطريقة قريبة من المعراج، وكذلك اشتركت طائفة الأسينيين مع الإسلام في شرط الوضوء قبل الصلاة أو تلاوة الكتاب المقدس أو لمس..

 

رسائل خفية؟ نظريات المؤامرة ولفائف البحر الميت

 

هذه الحقائق التي كشفتها مخطوطات البحر الميت لا تتناسب مع الخطاب القومي العربي السائد الذي يرفض تقبّل فكرة وجود مجتمعات وممالك يهودية تاريخيا في المنطقة. لذلك، تراوح موقفه منها بين التشكيك في صحتها إلى تكذيب ما وصلت إليه من نتائج، واعتبارها نتاج مؤامرة اشترك فيها التيار التوراتي والاستشراقي والصهيوني.

 

عرضت أطروحة الدكتور عيسى بن ضيف الله حداد بعنوان "أسرار الكهوف، الحلقة المفقودة من الكتاب المقدس العبري، من الشرنقة إلى الحبكة"، سردًا لاكتشاف مخطوطات بطريقة تشكك ضمنيًا في صحة اكتشافها، حيث كتب "في سيناريو الحبكة الرومانسي، في صخب عام 1947 يشاء القدر الغريب أن تقود العنزة الضالة خطى راعيها ليدشّنا معا أعظم حدث أركيولوجي في القرن العشرين لمخطوطات بقيت جاثمة في كهوفها أكثر من 2000 من السنين؟ أعقبها الإعلان في الصحف عن مخطوطات إنجيلية برسم البيع.. لتتبعها جملة من العمليات البوليسية نتج عنها مهاترات أكاديمية ودينية مارستها المؤسسات الدولية الكبرى بما فيها الفاتيكان ومؤسسات المنظومات الدينية والرسمية للصهيونية الدولية والأميركية.. وما رافق هذه الاكتشافات من تفاصيل وصراعات واتهامات وإقالات ومخطوطات مخبأة تتمتع بعناية فائقة، تصل قيمة استثمارها إلى ما يفوق البورصة النيويوركية"، ليصل الكاتب إلى أن قصة هذه الاكتشافات تصلح لتكون رواية بوليسية أو فيلم سينمائي!

 

ومع ذلك، فقد ذهب بعض الإسلاميين إلى أبعد من ذلك وقاموا بالتشكيك في صحة تلك المخطوطات، ولجأ بعضهم إلى تلفيق قصص وروايات غريبة لنفي صحتها. ورغم هذا التشكيك الساخر بحقيقة وأهمية مخطوطات البحر الميت من قبل القوميين العرب، فإن تعاملهم معها يعتبر رصينا إذا ما تمّت مقارنة مع موقف الإسلاميين منها.

 

قامت الدكتورة زينب عبد العزيز أستاذة الحضارة الفرنسية في جامعة الأزهر، بإعادة ترجمة مخطوطات الأسينيين التي لم يتم تضمينها في أي عمل مقدس لاحق "يشبه تصوير الإسلام ليسوع". ولإخفاء واقع المسلمين في تلك المخطوطات، ادعت عبد العزيز أن " هناك مساومة كبرى حصلت بين الفاتيكان والحركة الصهيونية، حيث قام الفاتيكان بتبرئة اليهود من دم المسيح مقابل إخفاء بعض المخطوطات، لأن التفسير المناسب لحقيقة المخطوطات قد يتسبب في نسف أركان الكنيسة، بأن سيد العدالة بشر وليس ابن الإله وتجسيده".

 

وقال طارق عبد إسماعيل في دراسة بعنوان "إنجيل قمران: إنجيل النصرانية الأول"، بأن طائفة الأسينيين ربما هي الفئة التي اتبعت رسول الله عيسى بن مريم، والتضييق الذي حصل على نشر المخطوطات كان خشية إظهار التقارب بين رسالة عيسى والإسلام.

 

قام البعض أيضا بالترويج لنظرية المؤامرة وأخذوها إلى أبعد من ذلك، حيث قال الشيخ عبد المجيد الزنداني أحد كبار مؤسسي حزب الإخوان المسلمين في اليمن: "إن مخطوطات البحر الميت قد تكون تسببت في موت بابا الفاتيكان يوحنا الثالث والعشرين عام 1963 عندما حاول الاعتراف أن هذه المخطوطات قد بينت أن شخصية المسيح الحق هي كما يدين به المسلمون، وأن دين الإسلام هو الدين الحق والمسلمون هم الفرقة الناجية، وحينها اعترض سفير إسرائيل لدى الفاتيكان، وما لبثوا أن رأوا البابا ميتا في فراشه فعاد الفاتيكان إلى سابق عهده في عدائه للحق والإسلام وإخفاء حقيقة المخطوطات"!. أنضم تنظيم "داعش" أيضا لتلك الحملة وأعلن أن "مخطوطات قمران (إنجيل البحر الميت) من شأنها أن تدمر العقيدة المسيحية".

 

وفي كتابه مخطوطات البحر الميت وعقيدة بني إسرائيل الحقيقية قال الدكتور محمد عبد المحسن "إن هناك من قال إن طائفة الأسينيين تلقت تعاليم للعلاج بأعشاب وأحجار أخذتها من الملائكة الساقطة على جبل الشيخ، ومن الواضح أن هذه الملائكة هي إصدار بني إسرائيل للملكين هاروت وماروت وهو شكل من ممارسة السحر وتحضير أرواح بطقوس الشامانية"! واستشهد نفس الكاتب بالروائي دان براون مؤلف كتب الخيال والإثارة مثل شيفرة دافنشي وكأن كتبه مصادر معتمدة يمكن استخدامها لتأكيد وقائع تاريخية.

 

قال موقع "إن الدين عند الله الإسلام" أن سفر أشعيا المكتشف في قمران لا يتطابق مع سفر أشعيا الحالي وادّعى أن العلماء منعوا من مشاهدة نص قمران لمدة 40 سنة ولم يسمح لهم بإجراء المطابقة حتى تم تغيير المكتشفات، وتابع في نفس الخيال: "هناك 500 كتاب اكتشفت في قمران أخفاها الإسرائيليون مثلما فعل الفاتيكان ببعض المخطوطات التي حصل عليها من الجيش الأردني قبل عام 1967! والعجيب أن العلماء الذين استشهد بهم المسيحيون لتأكيد صحة المخطوطات ليسوا سوى أعضاء في حزب التبشير المسيحي، فلا تؤخذ شهادتهم لأنهم طرف في القضية"، وليصل إلى أنه لا يمكن الحديث عن أمانة في نقل الكتاب المقدس.

 

هذه مجرد أمثلة بسيطة لردود بعض الإسلاميين الذين سرحوا في الخيال إلى درجة تلفيق قصص وحبكات من الصعب تصديقها بهدف نفي صحة مخطوطات البحر الميت. ولسوء الحظ، لدى هؤلاء الإسلاميين جمهور واسع يتمثل في الشريحة الأكثر جهلا وغير المتسامحة تريد أن تصدق قصص الإسلاميين الموثوقة حول اللفائف.

 

أتاحت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي الحالية الإمكانية لنشر أي أفكار دون خضوعها لدرجة مقبولة من مصداقية المحتوى، وتستغل بعض الحركات السياسية وحتى الدول في الشرق الأوسط ذلك للترويج لبرامج سياسية محددة، بحيث تتصيد أي جملة أو فكرة قالها أحد ما وتقوم بنشرها وكأنها مصدر حقيقي وموثوق للمعلومات لأنها تنسجم مع توجهاتها الفكرية،

 

وعلى الرغم من صعوبة إيقاف هذه المواقع التي تقف خلفها حركات سياسية ودول، ولكن الحل هو بجعل المعلومات الحقيقية متاحة لأوسع شريحة ممكنة، وكما يبذل دعاة ثقافة التعصّب والكراهية كل جهدهم على نشر ثقافتهم على جمهورهم، على من يريد نشر المعرفة وثقافة التسامح أن يعطي القضية الاهتمام الذي تستحقه ويقوم بعمل أكثر تنظيما لنشر أفكاره، ومن الأفضل العمل مع الدول المعتدلة في الشرق الأوسط ليتوافق إعلامها ومناهجها التعليمية مع درجة مقبولة من المصداقية والحيادية، وأن يتم التخطيط للقيام بعمل منظم لنشر الثقافة الجديدة، وهذا يعني توجّه جديد مختلف كليا عن كل ما تم ترديده طوال العقود الماضية على المستويات السياسية والثقافية والاجتماعية .والدينية وهذا يحتاج إلى مقاربة حكيمة حتى يكتب لها النجاح.

 

نحن كمجتمع بحاجة إلى إعادة النظر في تعاملنا مع هذه الوثائق الأثرية القيمة. فالاهتمام بها قد يوفر نقطة انطلاق قيمة لإعادة التأكيد على القواسم المشتركة بين الديانات الإبراهيمية، من المفاهيم اللاهوتية المشتركة إلى التقليد الشعائري المشترك. ومع ذلك، قد يتحقق ذلك فقط إذا اعترفنا بالروايات الخاطئة وتم التعامل معها على أنها خيال ورفضها. خلاف ذلك، قد نفوت هبة المعرفة المشتركة التي يمكن أن توفرها هذه اللفائف.

 

*المقال مقتبس من مقالين نشرا في مواقع الحرة


التعليقات