100 عام على كتابة عاكف نشيد الاستقلال التركي.. صدق الشعور وجودة السبك
- الجزيرة نت الإثنين, 29 مارس, 2021 - 07:30 مساءً
100 عام على كتابة عاكف نشيد الاستقلال التركي.. صدق الشعور وجودة السبك

[ محمد عاكف ارصوي ]

"ربّ لا تكتب على هذا الشعب كتابة نشيد وطني مرة ثانية"، تلك هي الأمنية الوحيدة لمحمد عاكف أرصوي شاعر الاستقلال التركي أو شاعر الإسلام كما يحب تسميته أدباء عرب.

 

وتحتفل تركيا هذه الأيام بالذكرى المئوية للنشيد الوطني، حيث أصدر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في وقت سابق من هذا الشهر تعميما باعتماد عام 2021 "عام محمد عاكف ونشيد الاستقلال الوطني"، وذلك بهدف لفت الانتباه لمساهمة الشاعر في التاريخ التركي، معلنا توفير جميع أنواع الدعم لتنظيم فعاليات وأنشطة على مدى العام في نطاق الاحتفالات من قبل جميع المؤسسات والمنظمات العامة.

 

وقال أردوغان إن النشيد الوطني للبلاد بات مصدر إلهام للأمة ولجميع المظلومين في نضالهم من أجل الحرية، مضيفا أن "النشيد الوطني هو القيمة والقاسم المشتركين لـ84 مليون مواطن بمن فيهم الأتراك والأكراد والشركس والعرب والعلويون والسنة واللاز".

 

ظروف كتابة نشيد الاستقلال

وقد أقر "المجلس الوطني الكبير" في أحلك ظروفه في شهر مارس/آذار 1921 قصيدة محمد عاكف لتكون "نشيد الاستقلال"، لتُنشَد القصيدة في كل مكان بقصد رفع معنويات الأتراك في المعارك ضد المحتلين، وكان مطلعها:

 

لا تخف، لن تخمدَ الرايةُ الحمراءُ في شفقِ السماءْ

 

قبلَ أن تخمدَ في آخرِ دارٍ على أرضِ وطني شعلةُ الضياءْ

 

إنها كوكبٌ سيظلُّ ساطعُا فهي لأمتي الغراءْ

 

إنها لي ولشعبي دون انقضاءْ

 

وظهرت فكرة كتابة النشيد الوطني بعد مرور نحو عام على تأسيس البرلمان يوم 23 أبريل/نيسان 1920، وإعلان الشعب التركي السيادة على الأرض التي أصبحت تعرف باسم تركيا.

 

وبعدما حظيت الفكرة بالدعم، نظمت وزارة التعليم مسابقة لاختيار النشيد الوطني، وقدمت جائزة قدرها 500 ليرة تركية للفائز، وطلبت الوزارة من المشاركين كتابة نشيد وطني للتعبير عن روح حرب الاستقلال التي بدأت يوم 19 مايو/أيار 1919، وتكللت بانتصار كبير يوم 9 سبتمبر/أيلول 1922، وتوجت بإعلان الجمهورية التركية يوم 29 أكتوبر/تشرين الأول 1923.

 

ورغم تقديم أكثر من 700 قصيدة للمسابقة، لم تجد الوزارة أيًا منها كفيلة بالتعبير عن مشاعر الأمة، فطلب وزير التعليم حمد الله صبحي تانري أوفر من أرصوي الذي كان نائبا في البرلمان كتابة قصيدة لتكون نشيدا وطنيا.

 

ويقع منزل أرصوي الذي كتب فيه نشيد الاستقلال الوطني في "أتنداغ" أحد أقدم أحياء أنقرة، وانتقل إليه قادما من إسطنبول في عشرينيات القرن الماضي.

 

سيرة ومسيرة

بعد 85 عاما من وفاته، لا يزال الشاعر أرصوي رمزا فكريا وأدبيا حيا في العالم الإسلامي، الذي تنقل فيه بين تركيا العثمانية والجمهورية والبلقان وسوريا ومصر، التي عاش فيها أكثر من 10 سنوات، بالإضافة إلى لبنان والجزيرة العربية.

 

ولد محمد عاكف في إسطنبول عام 1873، لأب قدم من قرية في غرب كوسوفو للدراسة، وراح اسمه يصعد بقوة في الساحتين الأدبية والأكاديمية، لا سيّما بعد انضمامه في 1908 إلى جامعة إسطنبول أستاذاً للأدب العثماني، ومشاركته في إصدار مجلة "صراط مستقيم"، التي نشر فيها معظم قصائد ديوانه الأول "صفحات" الصادر عام 1911.

 

أبدى الشاب عاكف اهتماما بمؤلفات الشيخ محمد عبده، الذي ترجم له "الإسلام بين العلم والمدنية" (1901)، ردا على وزير الخارجية الفرنسي آنذاك غابرييل هانوتو، الذي أعاد أسباب تأخر المسلمين إلى الإسلام نفسه، كما ترجم إلى التركية كتاب "اعتناق الإسلام".

 

ومع بداية حرب الاستقلال بزعامة مصطفى كمال، استقال محمد عاكف من عمله الحكومي، والتحق بالمعركة خطيبا وشاعرا متجولا يثير حماسة الأتراك للمشاركة في الدفاع عن وطنهم أمام الاحتلال البريطاني والفرنسي واليوناني، وفي هذا السياق انتخبته بلدة بوردور (جنوبي غربي تركيا) لتمثيلها في "المجلس الوطني الكبير"، الذي افتتح في أنقرة في أبريل/نيسان 1920.

 

وأصبح أرصوي واحدا من أكثر الشخصيات شهرة في الأدب التركي أوائل القرن العشرين، وتناولت قصائده المشكلات الاجتماعية والقضايا الفلسفية والدينية والسياسية والأخلاقية. وجاءت في 7 دواوين شعرية، وبرزت مواهبه الشعرية في غضون الحرب العالمية الأولى، وألهب مشاعر الأتراك بقصائد دعا فيها للوحدة الإسلامية، بينها قصيدة "المراحل" (1911) و"محاضرة في السليمانية" (1912) و"أصوات الحق" (1913) و"محاضرة في الفاتح" (1914) و"مذكرات" (1917) و"عاصم" (1924) و"الظلال" (1933).

 

رد اعتبار

اندفاع مصطفى كمال بعد النصر إلى إجراءات تغريبية دفع محمد عاكف إلى مغادرة تركيا والهجرة إلى مصر، وبقي فيها منشغلاً بترجمة القرآن والتدريس وإصدار ديوانه الأخير حتى نهاية حياته، حيث شعر بالمرض يشتدّ عليه في صيف 1936، فقرر العودة إلى إسطنبول ليتوفّى هناك يوم 27 ديسمبر/كانون الأول 1936.

 

ولكنّ العقدين الأخيرين اللذين عاشتهما تركيا، منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم (2002)، حملا متغيرات جديدة لم تكن لترى النور في السابق، إذ كان تشييع محمد عاكف في 1936 قد جرى وسط تجاهل رسمي كامل، مع أنه كان من الأعضاء المؤسّسين لـ"المجلس الوطني الكبير" ومؤلف "نشيد الاستقلال"، الذي كان له دوره في حرب الاستقلال وبقي يُنشد حتى الآن، وقد أعيدت طبع دواوينه وافتتحت جامعة تحمل اسمه في مدينة بوردور.

 

غير أن أردوغان، الذي يبدي إعجابه بشكل متكرر بالشاعر الراحل، انتهز فرصة منحه دكتوراه فخرية من قبل "جامعة محمد عاكف" في 2016 ليقول في كلمته عن الشاعر، التي أشادت أولاً بدوره في حرب التحرير وبتأليفه لنشيد الاستقلال، إنه "يستحق أن يكون شاعر الوطنية".

 

صدق فني وشعوري

وفي السياق، ذكر الشاعر والأكاديمي رمضان عمر أستاذ الأدب في جامعة أورفا "حينما نفتش وراء سر الأثر الفاتن للنشيد الوطني وقدسيته في قلوب الأتراك، ستجد أن جزءًا من الأسباب يعود للقصيدة، بينما يعود الجزء الآخر لصاحبها، فالقصيدة من الناحية الفنية كتبت موافقة للأوزان العروضية في زمن اندثر معه من يعرف العروض والوزن والقافية من الأتراك، كما أنها اتسمت بقوة السبك ورصانة التعبير وجمال الإيقاع وبلاغة التصوير في وحدة فنية خالدة".

 

وأضاف الشاعر عمر للجزيرة نت "من حيث المضمون، فهي قصيدة اقتسمت الرؤى والمفاهيم والشعارات في مقاطعها بين الدين والوطن، فما ورد فيها من كلمات تخص الوطن: الراية، والعلم، والوطن، والأرض، والهلال، والشعب، والبيت، والأجداد؛ كما وردت كلمات تخص الدين بنفس القدر من نحو: الحق، والهدى، والإيمان، والحلال، والأذان، والشهادة، والمعبد، والجنة، وبذلك استوى للقصيدة صدقان: صدق فني في جودة السبك، وصدق شعوري في روعة المضمون".

 

ولفت إلى أن محمد عاكف هو شاعر الوطن وهو محل إجماع لدى الإسلاميين والقوميين معا، ومع أن العلمانيين كانوا في خلاف شديد معه وكرههم له تجلى واضحا في مواقفهم السياسة منه، إلا أن حضوره الأدبي بوصفه شاعر وطن من العيار الثقيل أرغمهم على احترامه وقبول نصه المتميز، موضحا أنهم حاولوا تغيير النشيد الوطني 3 مرات في فترات زمنية مختلفة ومتباعدة منذ أن كتب حتى تسعينيات القرن الماضي، ولكنهم كانوا يفشلون في كل مرة.

 

 


التعليقات