كيف كان المشهد قبل الجريمة؟ وكيف وقعت؟
تحقيق ميداني لـ"الموقع بوست" يكشف تفاصيل تنشر لأول مرة عن حادثة "الأنفاق" في محافظة المهرة (فيديو)
- عامر الدميني الجمعة, 12 أبريل, 2019 - 08:18 مساءً
تحقيق ميداني لـ

[ سميت الجريمة بالأنفاق بسبب وجود أنفاق بالمنطقة ]

قبل أن يلتقطوا اللقمة الأولى من وجبة العشاء، اقتحمت المكان مدرعة سعودية، وباشرت بإطلاق النار عليهم بشكل عشوائي، فقتل اثنان، وجرح ثالث.

 

تلك هي تفاصيل مشهد من مشاهد جريمة الأنفاق الدامية التي شهدتها محافظة المهرة في الـ13 من نوفمبر 2018م كأول جريمة دموية يتعرض لها أبناء المهرة في محافظتهم منذ عقود، وجاءت بعد مرور عام كامل على وصول القوات السعودية إلى المهرة، ومثلت  فصلا جديدا من فصول الأحداث التي شهدتها محافظة المهرة، كما اعتبرت بمثابة جرس انتباه أيقظ الوعي العام لدى أبناء المهرة للاستهداف الذي تتعرض له محافظتهم، كما يقولون.

 

موقع الجريمة

 

وقعت الحادثة في منطقة بجبال "فرتك" الشهيرة بالمهرة، وهي عبارة عن سلسلة جبلية تمتد على ساحل المهرة في البحر العربي في مديريات حصوين وحوف وقشن، وأكبر قمة فيها هي التي وقعت فيها الجريمة.

 

تلك الجبال ترتبط في الذاكرة الشعبية المهرية بمقاومة البرتغاليين الذين وصلوا إلى المهرة، وعبثوا فيها، وتصدى لهم السكان آنذاك، ولقنوهم دروسا في النضال والحرب، حتى بات يطلق على السكان في المناطق القريبة من تلك الجبال تاريخيا بالفرتكيين، تعبيرا عن صلابتهم وماضيهم المعروف بمقاومة الغزاة، والتصدي للمستعمرين.

 

لكن المنطقة اليوم باتت تعرف بـ"الأنفاق"، بسبب وجود أربعة أنفاق على الطريق الذي يربط مدينة الغيضة (عاصمة المهرة) بمديريات قشن وحصوين وسيحوت، وهي طريق دولي يصل إلى محافظة حضرموت، وبقية المدن اليمنية، وتتبع إداريا مديرية الغيضة، وتقع في الجهة الغربية منها، وتبعد عنها بمسافة 70 كيلومترا تقريبا.

 

تخترق تلك الأنفاق الجبل، وتفصلها مسافات مكشوفة تتفاوت في الطول بين كل نفق والذي يليه، وأطولها من جهة مديرية حصوين ويبلغ طوله 1519 مترا، ثم الثاني ويقدر طوله بـ360 مترا، والثالث 365 مترا، والأخير طوله 1015 مترا، وشيدت في العام 2003م من قبل شركة تركية نفذت المشروع، ولا تزال المباني التي استخدمها العمال الأتراك أثناء البناء للسكن خلال فترة العمل موجودة على جنبات الطريق، ويستخدمها حاليا البدو الرحل الذين يرعون إبلهم ومواشيهم في ذات المنطقة.

 

تلك الأنفاق اختصرت بعد إنجازها مسافة 80 كيلومترا من الطرق الجبلية الملتوية والصعبة، وسهلت حركة النقل والمواصلات، وتعد إنجازا كبيرا في محافظة المهرة، لكنها اليوم تبدو في حالة كبيرة من الإهمال، بعد توقف صيانتها، مما أدى إلى انقطاع الكهرباء بشكل تام داخلها، فتحولت إلى مكان موحش يغرق في الظلام طوال الوقت، وأفقدها مظهرا بهيا، ويضطر السائقون إلى تشغيل الإضاءة لاستكشاف الطريق، بسبب شدة الظلام، إضافة لظهور بعض الحفر في الطريق من مكان لآخر.

 

تكمن أهمية الطريق الإستراتيجية في ربطها بين شرق المهرة وغربها، والمتحكم بها يستطيع أن يفصل المحافظة لنصفين، ويعزلهما عن بعضهما البعض، وهو المغزى الذي أدركته القوات السعودية، وسعت لإنشاء معسكر لها في ذات المكان، في مخطط يهدف للالتفاف على المناوئين لها في المهرة، وتحويلهم إلى مجموعات صغيرة غير قادرة على الالتقاء، وضعيفة على الأرض.

 

مشهد ما قبل الجريمة

 

 ظلت محافظة المهرة، الواقعة في أقصى شرقي الجمهورية اليمنية، بعيدة عن مجمل صراعات البلد في شمالها وجنوبها، ومكنها ذلك من الحفاظ على تماسك بنية المجمتع فيها، والذي يمتاز  باستناده للموروث القبلي القائم على وجوب التناصر بين القبائل، واحترام بعضها، ومنع الاعتداء ورفع السلاح في وجوه بعضها البعض.

 

 هذا الأمر عزز من التئام قوى المجتمع في المهرة مع بعضهم، ووقف حجر عثرة أمام أي محاولات تسعى لخلخة الواقع هناك، وكان سببا لصمود أبناء المحافظة في وجه كل مساعي التمزيق التي حاولت اختراقها، وتحويلها لنسخة من المحافظات الأخرى كعدن وحضرموت وأبين.

 

وفق هذه المعطيات جاءت حادثة الأنفاق، التي تعد واحدة من محاولات السيطرة والإطباق على المجتمع المهري من قبل القوات السعودية المتواجدة هناك منذ أكثر من عام، كما يؤكد كل من قابلناهم واستمعنا لهم أثناء إعداد هذه المادة.

 

في التاسع من أكتوبر 2018، زار محافظ محافظة المهرة راجح باكريت برفقة قائد القوات السعودية منطقة الأنفاق، وتجولوا في المكان، وقال باكريت -في تغريدة له على حسابه بتويتر عن الزيارة- إنها جاءت بهدف تعزيز دور النقاط الأمنية، واستحداث نقاط أخرى استعدادا لما وصفه بتنفيذ المرحلة الثانية من الحملة الأمنية، ومكافحة التهريب، وتثبيت الأمن والاستقرار.

 

 

يبدو هذا الطرح الذي سوقه المحافظ لمن لا يعلم الوضع في المهرة أمراً جيدا، لكن من يمكث في المحافظة لأيام، ويعلم تفاصيل ما يجري هناك، يدرك ما وراء مثل تلك الزيارة، فالنقطة الأمنية التي تحدث عنها المحافظ لم تكن القوات الحكومية المحلية هي من سيتمركز فيها، بل نقطة تابعة للقوات السعودية، وستتحول لاحقا إلى معسكر كبير، وهي نفس الطريقة التي تعمل عليها القوات السعودية عند استحداثها للمعسكرات، حيث تقوم بإنشاء نقطة أمنية تتواجد فيها عناصر أمنية محلية من القوات التي أنشأتها وتمولها في المهرة، وبعد أيام تتحول تلك النقطة إلى معسكر للقوات السعودية، وهو ما سنتحدث عنه في مادة مستقلة.

 

تلك النقطة التي بشر بها المحافظ أيضا تبعد مسافة قليلة من ثلاث نقاط أمنية موجودة داخل الأنفاق، وتقوم بمختلف المهام، بما فيها مكافحة التهريب، لكنها تتبع قوات محلية يمنية، بينما القوات السعودية تسعى إلى إيجاد قوات خاصة بها، وتهميش كل القوات المحلية، وفق ما أدلى به ضابط عسكري رفيع، طلب التحفظ على هويته.

 

أما فيما يتعلق بمكافحة التهريب، فمنذ أن وصلت القوات السعودية في نهاية نوفمبر من العام الماضي، لم تسجل أي حالات ضبط للأسلحة والمخدرات، وما جرى ضبطه هو محاولة من محاولات التبرير المكشوفة لتلك القوات، والتي اختلقتها بهدف الإساءة لأبناء المهرة، كما يؤكد هؤلاء في أحاديثهم، وهو ما كشفته عملية الإعلان عن ضبط أسلحة في منفذ شحن الحدودي مؤخرا، وسنتحدث أيضا عن التهريب في المهرة بمادة تفصيلية لاحقة.

 

معسكر جديد للسعودية

 

يقول عضو المجلس المحلي في مديرية قشن، سعيد عفري، إن القوات السعودية كان لديها توجه لإنشاء معسكر جديد في منطقة الأنفاق، وتم إقرار استحداث المعسكر من قبل اللجنة الأمنية في المهرة، وبدؤوا في عملية الاستحداث، من خلال مقاول تم تكليفه بتلك المهمة، وباشر العمل في المكان المحدد.

 

استفز ذلك أبناء المنطقة في القرى المجاورة لمكان الاستحداث، وهي مجموعة قرى تعتمد في حياتها على رعي المواشي والإبل في الجبال التي سيبنى فيها المعسكر، فرفضوا عملية الاستحداث، وطردوا المقاول من المكان، واضطرت السلطة المحلية لتوقيف العمل هناك.

 

يقول أحد سكان تلك المنطقة إن المكان يشكل لهم مساحة للرعي، وتتواجد فيه عوائلهم، ومن شأن ذلك المعسكر أن يجلب لهم المضايقات، ويعطل مصالحهم، ويعيق تحركاتهم هناك.

 

يقول مصدر أمني طلب التحفظ على هويته: "قبل شهر من الحادثة أرسل محافظ المحافظة راجح باكريت جنودا من الأمن المركزي إلى المكان، لكنهم كانوا على انسجام مع الأهالي في المنطقة، واتفقوا سويا على عدم تبادل إطلاق النار بين الطرفين، وتم التواصل مع قيادة الأمن المركزي لتخفيف الاحتقان، ومنع التصادم بين القبائل وقوات الأمن كون المعسكرات لم تستحدث بموافقة من الحكومة الشرعية، فانسحبوا من المكان، وظلت الحراسة من القبائل في المنطقة موجودة".

 

مر شهر كامل على تلك العملية، لكن القوات السعودية لم تيأس، ومارست ضغطها على المحافظ باكريت لمعاودة عملية الاستحداث، فعادت مرة أخرى لاستكمال العمل، عبر ذات المقاول، الذي زودوه بمجموعة جنود من القوات التي يطلق عليها "قوات التدخل السريع" أو المقنعين، لحمايته حتى ينجز المهمة، وهي قوات وفرت لها القوات السعودية معسكرا في مطار الغيضة، وتخضع في توجيهاتها للمحافظ باكريت، وليس لها أي علاقة بالقوات الحكومية الرسمية.

 

قبل الحادثة بيومين اجتمع مشايخ القبائل في منزل الشيخ عبد الله بن عيسى آل عفرار لمناقشة استحداث المعسكرات في المهرة، والنقاط الجديدة من قبل الجنود السعوديين في كل محافظة المهرة، بدون موافقة السكان، وبطرق التوائية تتم بالترغيب والترهيب، واتفق الجميع على منع جميع النقاط المستحدثة، وكان اللقاء مع بن عفرار بسبب تجاهل السلطة المحلية لمطالب المواطنين وعدم الاستماع لشكواهم، وفق ما ذكره أحد المشايخ الذين حضروا الاجتماع لـ"الموقع بوست".

 

ومن ضمن ما تم مناقشته في اللقاء، إقامة النقطة التي يزمع السعوديون تكوينها في الأنفاق، والغرض منها تقسيم المهرة، ومضايقة السكان، ومنع المعتصمين من الوصول إلى الغيضة، كون الكثير منهم يأتون من مناطق في حصوين وقشن وسيحوت.

 

اليوم الدامي

 

صباح الـ13 من نوفمبر 2018، بدأت عملية الاستحداث للنقطة العسكرية في منطقة الأنفاق، وعلم المواطنون من أبناء المناطق المجاورة بالأمر، وتوافدوا من مديرية حصوين القريبة من منطقة الأنفاق للمكان للاحتجاج على تلك الاستحداثات، ثم سمع الناس في بقية المديريات كالغيضة وقشن وغيرها بالاستحداثات فتوافدوا للمكان تضامنا مع أبناء منطقة حصوين، وتجمعوا في مساحة ترابية على يمين الطريق المؤدي إلى العاصمة الغيضة، وهي مساحة -كما تظهرها الصورة- لا تزال باقية منذ أيام تشييد الطريق من قبل الشركة التركية.

 

يقول الشيخ جرداد، وهو أحد أبرز مشايخ القبائل في مديرية حصوين القريبة من المكان: "في العصر جاءت مجموعة من السعوديين على متن مدرعة إلى المكان بغية استكشافه كما يقال، وتصدى لهم مجموعة من الشباب، وأشهروا البنادق في وجوههم ورفضوا مرورهم، ورد السعوديون بأنهم لا يريدون حربا ولا علاقة لهم بما يجري في المهرة، بل جاؤوا لمساعدة أهلها، وقالوا إن الأمر بيد السلطة المحلية في المحافظة".

 

وفقا لشهود عيان آخرين لهم علاقة بما جرى، فقد طلب المحافظ من قوات الأمن المركزي التوجه للمكان، وفرض الاستحداث بالقوة، لكن تلك القوات رفضت، مثلما رفضت قيادة الجيش المحلية هناك الذهاب للمكان، فأرسل تعزيزات من المليشيا التابعة له، والتي تدعى بالمقنعين، وتتمركز في مطار الغيضة، وتحظى بدعم القوات السعودية.

 

 

قبل أن تغيب الشمس ذلك اليوم، وصلت تعزيزات من تلك القوات الموالية للسعودية مع أسلحتها إلى المكان، وتمركزت في الجهة المقابلة من المعتصمين، وهي مساحة أيضا لا تزال موجودة منذ إنشاء الطريق، وتحولت المنطقة حينها إلى ساحة حرب تنذر بالمواجهة، فالمعتصمون على يمين الطريق، وتلك القوات على يسارها، ولا يفصل بينهما سوى الخط الإسفلتي.

 

كان عدد المعتصمين من أبناء المهرة يصل إلى حوالي 300 شخص، وقليل منهم يحملون السلاح الشخصي، بينما يرجح أن عدد المليشيا المهاجمة كان أكثر من 400 شخص، ولديهم أكثر من خمسين طقما عسكريا، وثلاث مدرعات.

 

في هذه الأجواء تدخل وكيل محافظة المهرة صالح عليان بين الطرفين، وعرض إقامة صلح يقضي بعدم التصعيد، وتشكيل فريق من الجانبين، بحيث يلتقون في اليوم التالي بمقر المحافظة لحل هذا الإشكال.

 

يقول الشيخ جرداد، الذي يبدو في العقد الخامس من عمره ويمتزج شعر رأسه الأبيض بالشعر الأحمر بسبب الحناء: "جلسنا في المكان حتى المغرب، ثم حضر صالح عليان وكيل المحافظة، وقابلته شخصيا، وأبلغ المعتصمين بأنه يريد أن يحل القضية بينهم وبين السلطة المحلية ممثلة بالمحافظ، بحيث تنسحب المليشيا التابعة للمحافظ، وينسحب المعتصمون أيضا، وفي الصباح يحضر ممثلون عن الطرفين إلى الغيضة، ويجري مناقشة المشكلة وحلها، وسيذهب لإجراء اتصال هاتفي مع الأطراف ثم يعود، وذلك بسبب عدم وجود تغطية في المكان، لكنه تأخر لوقت طويل، وظلينا في مكاننا".

 

ذهب عليان إلى منطقة أخرى لإجراء اتصالات بالأطراف المعنية، وبقي المعتصمون المرابطون في مواقعهم، وفي نفس الوقت ظلت المليشيا في الطرف الآخر في مكانها.

 

بحلول الساعة الـ11 مساء في منتصف الليل، تداعى المعتصمون لوجبة العشاء، فافترشوا الأرض، وتجمعوا في حلقات استعدادا لتناول تلك الوجبة، وقبل أن يلتقطوا اللقمة الأولى، وقع ما لم يكن في الحسبان، وفق إفادة شهود عيان لـ"الموقع بوست".

 

اقتحمت مكان المعتصمين مدرعة عسكرية سعودية تحمل رشاشا، وباشرت بإطلاق النار بشكل عشوائي عليهم، وفي مختلف الاتجاهات داخل تلك البقعة التي احتشدوا فيها.

 

أثار ذلك الفزع والفوضى، ودفع بالمتواجدين للهروب من أمامها تحاشيا لتعرضهم للدهس، وهرع آخرون نحو الأحجار والأكوام الترابية لتحميمهم من الرصاص المتطاير في كل اتجاه.

 

 يقول الشيخ جرداد الأسد: "كان السلاح الشخصي للكثير من الحاضرين مرمي على الأرض بسبب تناولهم وجبة العشاء، وبعضهم كان سلاحه في السيارات خارج المكان، فلم يكن أحد يتوقع حدوث الهجوم، بعد الوعد الذي قدمه وكيل المحافظة عليان".

 

ويضيف: "بسبب إطلاق النار فر الحاضرون في عدة اتجاهات نحو الجبل القريب من المكان، ونحو الأماكن المنخفضة وكذلك خلف الصخور خوفا من دهس المدرعة لهم، أو إصابتهم بالرصاص".

 

وإزاء ذلك بدأ المعتصمون في ردة الفعل في محاولة منهم لإيقاف المدرعة عن إطلاق النار في اتجاههم. يقول جرداد الذي كان حاضرا حينها، وعاش تفاصيل تلك الحادثة: "شاهدت الرصاص الذي تطلقه المدرعة أمام وجهي، ونجوت منه بأعجوبة، ولم يكن أمامنا من خيار سوى إيقاف ذلك الرصاص الكثيف الذي تطلقه المدرعة، فأخرج البعض سلاحهم الشخصي (كلاشينكون ومسدسات) وأطلقوا النار على المدرعة والرشاش الذي تحمله بغية إرغامها على التوقف عن استهدافنا بالرصاص الكثيف، وهو ما تم".

 

في تلك الأثناء سقط أول الضحايا بفعل ذلك الرصاص، لتسجل تلك الحادثة أول عملية قتل تشهدها محافظة المهرة في تاريخها، وأول عملية دموية ترتكبها القوات السعودية، والسلطة المحلية المدعومة منها في المهرة.

 

يقول سالم مبخوت العوبثاني، والذي قام يومها بإسعاف القتلى، إن "المدرعة حينما جاءت إلى المكان، كان المعتصمون يظنون أنها سيارة وكيل المحافظة الذي ذهب للتواصل مع الطرف الآخر بغرض التوصل لحل ودي، ولم يكن يتوقع أحد أن تطلق النار بتلك الطريقة، وهو ما دفع المعتصمين للتفرق وتحاشي الرصاص".

                               

يضيف العوبثاني في حديثه لـ"الموقع بوست" قائلا: "توقف إطلاق النار لبرهة، وعندما تحركتُ من مكاني شاهدتُ أحد الشباب من المعتصمين والدماء تنزف من بطنه، بسبب تعرضه لإطلاق نار من الخلف أثناء فراره، لكنه لم يمت حينها، فربطتُ مكان الجرح بـ(غترة) وحملته إلى السيارة لإسعافه، وقمتُ بتشغيل إضاءات السيارة (الغمازات) حتى يعلم الطرف الآخر أن هناك حالة إسعاف، فلا يطلق النار على السيارة".

 

 

ويواصل شهادته بالقول: "مضيتُ بالسيارة في اتجاه منفذ المكان الذي كان المعتصمون متواجدين فيه، والذي كان مليئا بالجنود التابعين للقوات السعودية، والذين سدوا المدخل بشكل كامل، وهو المكان الوحيد الذي يمكن الخروج منه، وقبل وصولي للمنفذ الذي يؤدي للطريق الإسفلتي العام شاهدتُ شابا آخر مصابا على الأرض والدماء تغطي ملابسه، فأخذته إلى السيارة بجانب المصاب الأول، وقبل الخروج من البوابة إلى الخط الرئيسي شاهدتُ مصابا ثالثا ملقيا على الطريق، فأخذت الجميع وخرجتُ من تلك البوابة، ولم يطلق الجنود علينا النار، أو يتعرضوا لنا بأذى، وجرى إسعاف المصابين إلى أحد المشافي في مديرية قشن".

 

وفقا لشهود عيان آخرين، فقد استمر إطلاق النار من المدرعة لمدة عشر دقائق، وبسبب إطلاق النار عليها من المعتصمين تعرض أحد إطاراتها للاحتراق، فانسحبت وغادرت المكان.

 

يضيف شاهد عيان آخر -تحفظ على هويته- بأن تلك المدرعة التي يتوقع أنها جاءت من مطار الغيضة حيث تقيم القوات السعودية شوهدت تحترق على مسافة 10 كيلومترات تقريبا من مكان الحادث، وأرسلت القوات السعودية ذاتها طائرة مروحية نقلت من كانوا داخل المدرعة إلى مطار الغيضة، بينما جرى نقل المدرعة بشاحنة إلى معسكر يتبع القوات السعودية في منطقة جدو بحصوين، وهو أقرب المعسكرات السعودية لمكان الحادثة، وجرى عرضها لاحقا على مختصين في السلاح لتحديد نوعية الطلقات التي أصابتها، توهما بوجود أسلحة ثقيلة أطلقت عليها، وأدت لتأثرها وعطبها.

 

 

لكن المعركة لم تتوقف بمغادرة المدرعة للمكان، فقد واصلت تلك المليشيا -التابعة لمحافظ المحافظة- إطلاق النار من مكان تواجدها مستهدفة المعتصمين، ومستخدمة العديد من الأسلحة بما فيها الآر بي جي، كما يروي الشيخ جرداد، ورد عليهم المعتصمون أيضا بإطلاق النار من أسلحتهم الشخصية.

 

استمر إطلاق النار حتى الساعة الثالثة فجرا، ثم توقف بشكل مفاجئ. يقول الشيخ جرداد: "صلينا الفجر بالتيمم، فلم يكن لدينا ماءً كافيا للوضوء، ومع دخول الضوء خرجتُ من المكان الذي كنت فيه، ونظرت نحو المكان الذي كان الطرف الآخر يتمركز فيه ولم نرَ أحدا، وعلمنا لاحقا أن المسلحين انسحبوا بشكل كامل، وغادروا المكان في الظلام قبل طلوع الفجر".

 

معاناة مع الضحايا

 

أسفرت تلك الحادثة عن مقتل شخصين، وجرح ثالث، كان القتيلان شابين من أبناء المهرة، الأول يدعى ناصر سعيد عيسى أحمد نشوان، وينتمي لمديرية حصوين، والثاني علي أحمد عروة الجدحي، وينتمي لأسرة تسكن في مديرية قشن التي تبعد ستين كيلومترا تقريبا عن مكان الحادثة، وهو لاعب كرة قدم في نادي قشن الرياضي، وأسعف إلى المكلا، ومات في الطريق متأثرا بجراحه.

 

أما الجريح فهو سالم سمحان غفيل الجدحي، وينتمي أيضا لمديرية قشن، ويرتبط مع القتيل الثاني بصلة قرابة، وأسعف هو الآخر إلى مدينة المكلا، وتلقى فيها العلاج لمدة ستة أيام، حيث أجريت له عملية جراحية هناك.

 

 

يقول سالم الجدحي -في حديثه لـ"الموقع بوست" بفناء منزله في مديرية قشن- إنه حضر لمكان المعتصمين غير متوقع إطلاق نار هناك، ويوضح بأنه تعرض لإطلاق نار من المدرعة التي شاهدها تقتحم المكان، وأغمي عليه، ولم يفق إلا بعد أيام داخل المستشفى.

 

ولم تقتصر عملية الضرر التي لحقت بهؤلاء القتلى والجريح بالنار التي استهدفتهم، فالجريح كشف في حديثه لـ"الموقع بوست" أن البحث الجنائي في المستشفى الذي أسعف إليه بالمكلا طلب التحقيق معه بعد تلقيه بلاغا من الجهات الأمنية في المهرة، ولم يفرج عنه إلا بعد التحقيق مع قريب له عن الحادثة، ثم الاستماع لأقواله عندما تماثل للشفاء.

 

يعتقد الجدحي أن جهات في المهرة أبلغت أجهزة الأمن بالمكلا، وطلبت التحقيق معه، في إطار مضايقتهم أكثر، وبات الآن ممنوعا من حمل الأثقال، ومن قائمة محاذير أخرى ألزمه الطبيب بها، بسبب العملية التي أجريت له.

 

أما القتيل علي عروة الجدحي، فقد وصل المستشفى في المكلا ميتا، وتحفظت الأجهزة الأمنية هناك على جثته، ولم يفرج عنها إلا بعد التفاهم مع السلطة المحلية في المهرة، وبعد جهود مضنية بذلتها عائلته.

 

بالنسبة لناصر سعيد نشوان، وهو القتيل الأول، فقد أسعف عقب وفاته إلى مستشفى الغيضة بالمهرة، وهناك تم التحفظ على جثته، ومنع أقاربه من الدخول إليه، وأحيط المستشىفى بحراسة أمنية مشددة، وفق ما ذكره شهود عيان، ثم جرى تسليمه لاحقا لأسرته.

 

ردود فعل

 

أحدثت تلك الجريمة أصداء واسعة في محافظة المهرة، وتداعت القبائل من كل المحافظة، وأعربت عن إدانتها الشديدة، وطالبت بالتحقيق مع المتورطين، وعقدت القبائل اجتماعا موسعا في الـ18 من نوفمبر 2018م دعا له المجلس العام لأبناء محافظتي المهرة وأرخبيل سقطرى، ترأسه الشيخ عبد الله بن عيسى بن عفرار، رئيس المجلس، بحضور مشايخ وأعيان وشخصيات اجتماعية وسياسية بمختلف الانتماءات.

 

أقر ذلك الاجتماع تشكيل لجنة من الحاضرين لمتابعة نتائج اجتماعاته مع السلطة المحلية والأطراف المعنية، تأكيده على أحقية الاعتصامات والوقفات الاحتجاجية بشكل سلمي، وأعلن رفضه تسمية المحتجين بالمهربين للسلاح والمخدرات، ورفض الاتهامات والتخوين لكل الأطراف في المهرة.

 

دلالات الحادثة

 

يقول سعيد محمد عفري، عضو المجلس المحلي في مديرية قشن سابقا، إن الجهات المسؤولة في السلطة المحلية والأجهزة الأمنية لم تكن على مستوى المسؤولية في التعامل مع ما جرى في منطقة الأنفاق، ولم تقدم الجناة للعدالة لينالوا جزاءهم، ولم تتحرك إلا شكليا.

 

ويضيف في حديثه لـ"الموقع بوست": "فوجئنا بالصمت المطبق من قبل الجهات الأمنية والقوات السعودية والدولة الممثلة بالسلطة المحلية في المحافظة، وحتى اللحظة لم يتم فتح أي تحقيق إطلاقا عن تلك الواقعة، ولا يزال المجتمع في المهرة محبطاً من هذا التصرف، خاصة ذوي المصابين والقتلى".

 

ويذكر عفري أنهم تقدموا بمطالبات متكررة لفتح تحقيق في هذه الجريمة، من قبل أولياء الدم، ولجنة الاعتصام في المحافظة، ومشايخ القبائل الذين اجتمعوا عقب وقوع الجريمة، لكن لم يستجب أحد من الجهات المعنية.

 

ويعتبر عفري عدم التجاوب والإهمال لهذه القضية يلقي بالضوء على من ارتكبها بوضوح، قائلا: "كان من المفترض أن تقوم الجهات المختصة بالتحقيق بهذه القضية، وتأخذ مجراها الطبيعي لدى القضاء".

 

ويعلق على ذلك بالقول: "هذا يعكس وجود دلالة واضحة أن الجريمة هم من ارتكبها، وبالتالي فكيف لقاضٍ أن يحكم على نفسه، أو لمدير الأمن يقدم نفسه كمدان، أو تقوم قوات التحالف بإحالة نفسها للتحقيق، وهذا الأمر أوصل رسالة للمواطن في المهرة بأن مرتكبي هذه الحادثة قدموا اعترافا قطعيا عن أنفسهم بأنهم وراء الحادثة، وبالتالي لا يستطيعون فتح هذا الملف، وهذا الذي لم نكن نتصوره أو نتخيله".

 

تم تشكيل لجنة برئاسة الوكيل الأول للمحافظة للنظر في الجريمة، ولكن -وفقا لعفري- كانت للاستهلاك الإعلامي فقط، ولم ينتج عنها شيء حتى اللحظة، موضحا أن الجريمة فتحت أعين المجتمع في المهرة لما يجري ويحاك للمحافظة بشكل أعمق عما كان قبلها، وأدرك الجميع أن مطالبهم مشروعة، معتبرا أنها لا تزال قضية لكل أبناء المهرة وليست لقبيلة معينة أو لعوائل الضحايا وحدهم.

 

أما الشيخ جرداد فيؤكد في حديثه لـ"الموقع بوست" بأن ما حدث كان أشبه بمذبحة دموية تستهدف المعتصمين في المكان، وعلق بالقول: "كانوا يتوقعون أن استهداف الحاضرين بالنار سيؤدي إلى تخويفهم وترهيبهم وفرارهم، وبالتالي سيتمكنون من إنشاء وتأسيس النقطة الأمنية والمعسكر الذي يتطلعون لبنائه هناك، لكن صمود أبناء المحافظة أعاق مخططهم، وفتح أعينهم على تجاه ما يجري".

 

بالنسبة للشيخ القبلي علي سالم الحريزي، فقد اعتبر تلك الحادثة مؤشرا يؤكد بأن من استخدم المدرعة ذلك اليوم لقتل المعتصمين، فإنه لن يتورع عن استخدام الطائرات لاستهدافهم في أي وقت، مؤكدا أن الجريمة بحد ذاتها دفعت أبناء المحافظة بقبائلهم وتوجهاتهم الاجتماعية المختلفة للالتفاف والتآزر مع بعضهم أكثر من أي وقت مضى.

 

موقف السلطة المحلية

 

بعد يوم من تلك الحادثة، نشر محافظ المهرة راجح باكريت -في حسابه بتويتر- تغريدة وصف فيها ما جرى بأن نقطة الأنفاق الأمنية تعرضت لإطلاق نار من قبل خارجين عن القانون ممن وصفهم بمهربي الأسلحة والمخدرات والمدعومين من الانقلابيين والدول الإقليمية لتسهيل عمليات التهريب من البحر ، وتم التعامل معهم بحزم

 

 

لم تكن تلك النقطة قد استحدثت بعد، وفق شهادات استمعنا لها من أهالي المنطقة، وشهود عيان في محافظة المهرة، ورفض محافظ المهرة الرد على الاستفسارات التي أرسلناها له ليتحدث عما جرى يومها.

 

بعد ذلك التصريح، أعلن المحافظ -في تغريدة أخرى يوم الـ16 من نوفمبر- أنه وجه بتشكيل لجنة تحقيق عاجلة برئاسة وكيل المحافظة الأول في حادثة نقطة الأنفاق ومعرفة ملابساتها، ومن يقف وراءها، لكن ذلك لم يحدث حتى تاريخ نشر هذه المادة.

 

 

ملاحظة المحرر:

 

في سياق إبراز وجهات نظر مختلف الأطراف في هذه القضية، سعينا للتواصل مع عدة شخصيات لمعرفة رأيها، وتم إرسال الاستفسارات لكلٍّ من محافظ المهرة راجح باكريت، والسفير السعودي لدى اليمن محمد آل جابر، ولم نحصل على أي إجابات منهما، بينما تعذر الوصول لقائد القوات السعودية في المهرة، ووكيل محافظة المهرة صالح عليان.


التعليقات