[ عاهل السعودية الملك سلمان ورئيس جمهورية تركيا رجب أردوغان ]
أفضت التطورات العسكرية في اليمن خلال الأيام الأخيرة إلى فرض واقع جديد تزامن مع متغيرات إقليمية ودولية بدت فيها السعودية بحاجة إلى حلفاء جدد، خصوصا بعد انتهاج إدارة الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن مواقف سياسية إزاء السعودية وإيران لم تكن مطمئنة بالنسبة للرياض، وبالتالي لم يكن أمام السعودية سوى تصفير مشاكلها الإقليمية وربما السعي لتشكيل تحالفات جديدة وفقا لما تتطلبه ظروف الصراع الإقليمي الراهنة، ذلك أن أزمة حصار قطر والخلافات بين تركيا من جهة والسعودية ومصر والإمارات من جهة أخرى، تعد أبرز عوائق تشكيل تحالف سني لمواجهة إيران وحلفائها.
وبما أن المتغيرات الإقليمية والدولية دفعت السعودية للمصالحة مع قطر ثم السعي للمصالحة مع تركيا، وما سيقوده ذلك إلى مصالحة إقليمية شاملة بعد انحسار أعباء ثورات الربيع العربي وما أفرزته التطورات من صراع إقليمي طائفي، فمن المؤكد أن ذلك سيلقي بظلاله على الأزمة اليمنية، خصوصا أن اليمن باتت تمثل ساحة صراع ليس بين السعودية وإيران فقط، وإنما بين إيران والعرب، أو بين المحور الشيعي والمحور السني إن جاز التعبير، نظرا للبعد الطائفي للصراع. وبما أن طول أمد الصراع في اليمن ارتبط بأعباء ثورات الربيع العربي، فإن المصالحة السعودية التركية ستخفف من أثقال تلك الثورات وما نجم عنها من انقسامات إقليمية بين مؤيدين للثورات ومناهضين لها، وسيتشكل مآل الصراع في اليمن على النحو الذي قد تتخذه العلاقة بين السعودية وتركيا.
- السعودية وعقدة فراغ القوة
رغم كثافة إنفاق السعودية على التسليح خلال السنوات الأخيرة، لكن غياب كفاءة العنصر البشري المدرب على الأسلحة الحديثة وانعدام الرؤية الإستراتيجية قزّم من دور المملكة في الصراعات الإقليمية، وأدى ذلك إلى تراجع النفوذ السياسي للمملكة الذي تراكم خلال سنوات مضت بفضل مكانتها الروحية لدى المسلمين، بالإضافة إلى الدور الذي لعبه المال السياسي (المكرمات الملكية) في شراء الولاءات والنفوذ هنا وهناك.
كما أن السعودية فشلت في تشكيل تحالفات فاعلة منذ عام 2015، أولها التحالف العربي لدعم السلطة الشرعية في اليمن، الذي تقلص حتى صار محصورا بين السعودية والإمارات، والثاني التحالف الإسلامي لمكافحة الإرهاب، والذي بدا لحظة الإعلان عنه أنه موجه ضد إيران والمليشيات الطائفية الموالية لها في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، ثم تحالف الدول المشاطئة للبحر الأحمر ردا على تهديدات إيران والحوثيين باستهداف طريق التجارة الدولية المارة عبر مضيق باب المندب والبحر الأحمر، وكل تلك التحالفات لم تعد قائمة بالفعل، ولم تحقق أي إنجاز عسكري أو أمني، وفشلها يمثل انعكاسا لفشل الدبلوماسية السعودية وتراجع نفوذها السياسي وفشلها العسكري في اليمن.
في المقابل، برزت تركيا في عهد حزب العدالة والتنمية (الإسلامي) كلاعب إقليمي مؤثر، وتصاعد نفوذها السياسي والعسكري بعد ثورات الربيع العربي وما ترتب عليها من صراعات وانقسامات بين دول الإقليم، ثم إن النجاح الذي أحرزته تركيا بعد تدخلها العسكري في ليبيا، وما آل إليه الوضع هناك بعد ذلك التدخل، كل ذلك جعل بعض أطراف الصراع في المنطقة تتخوف من تنامي النفوذ التركي، خصوصا السعودية ومصر، وهما الدولتان اللتان تخشيان أن تسحب تركيا البساط منهما في زعامة العالم الإسلامي، وكان التدخل العسكري التركي الفاعل في الأزمة الليبية بمثابة جرس إنذار للدول المناهضة لتركيا، التي وقفت جميعها عاجزة عن مواجهتها في الأراضي الليبية، خصوصا مصر والإمارات.
وفي ظل هذا الاضطراب الإقليمي، اتخذت الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة جو بايدن مواقف صادمة للسعودية، تتمثل في وقف صفقات بيع السلاح لها والذي تستخدمه في حربها باليمن، والدعوة لحل الأزمة اليمنية سلميا، والانفتاح على إيران فيما يتعلق ببرنامجها النووي، والتراجع عن إجراءات اتخذت ضد إيران والمليشيات الطائفية الموالية لها من قِبَل إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، بما فيها التراجع عن تصنيف جماعة الحوثيين منظمة إرهابية.
صحيح أن السعودية تعد المسؤول الرئيسي عن إطالة أمد الصراع في اليمن، ومنح جماعة الحوثيين الفرصة الزمنية لترسيخ سيطرتها في مناطق الكثافة السكانية في شمال البلاد، وتطوير قدراتها العسكرية، غير أن التصعيد الحوثي الأخير ضد المملكة سيدفعها إلى مراجعة حساباتها، ذلك أنها وجدت نفسها بين تنمر مليشيات طائفية معادية وحلفاء غير مخلصين، فالولايات المتحدة تتخلى عنها تدريجيا، والإمارات تعبث في حديقتها الخلفية (اليمن) ومتهمة بالتواطؤ والتنسيق مع إيران والحوثيين ضد المملكة.
أما مصر، رغم قوة جيشها، إلا أن أزماتها الداخلية تعيقها عن خوض حروب تتطلبها ضرورات أمنها القومي، فكيف ستخوض حروبا إلى جانب السعودية، فهي عجزت عن مواجهة إثيوبيا فيما يتعلق بأزمة سد النهضة، وعجزت عن القضاء على الجماعات الإرهابية في شبه جزيرة سيناء، وعجزت عن مساندة الجنرال الليبي المتقاعد خليفة حفتر بعد تدخل تركيا هناك، وقبل ذلك لم تشارك في عملية "عاصفة الحزم" التي اندلعت في أواخر مارس 2015، رغم الإعلان أنها ضمن التحالف العربي الذي شكلته السعودية حينذاك لدعم السلطة الشرعية في اليمن.
- لماذا التقارب السعودي التركي؟
وفي خضم عقدة فراغ القوة وانعدام الحلفاء المخلصين للسعودية، التي اعتادت على الغير لحماية أمنها القومي، لدرجة أن هناك نكتة متداولة على نطاق واسع في الأوساط السياسية الغربية تقول إن السعودية ستدافع عن أمنها حتى مقتل آخر جندي باكستاني، فإنه لم يعد أمام الرياض سوى البحث عن حلفاء جدد مخلصين، ولعل المصالحة المرتقبة بين السعودية وتركيا ستفضي إلى ذلك، لا سيما أن تركيا برزت كدولة مؤثرة في بيئة إقليمية ودولية شديدة الاضطراب، في وقت تتعرض فيه السعودية لتهديدات ومخاطر أمنية غير مسبوقة منذ نشأة الدولة السعودية الثالثة قبل نحو مئة عام.
وفي حين تنتهك السعودية سيادة اليمن في محافظة المهرة بحثا عن منفذ لتصدير النفط عبر البحر العربي، فإن منشآتها النفطية تتعرض للهجمات من قبل الحوثيين وإيران في عمق أراضيها، فضلا عما تسببه تلك الهجمات من إقلاق لسكينة المواطنين وإرهاق لجيش المملكة الذي يبدو أحيانا غير قادر على اعتراضها أو معرفة مصدر إطلاقها، يضاف إلى ذلك التصعيد الحوثي الأخير في مأرب واستهداف عمق الأراضي السعودية بصواريخ بالستية وطائرات مسيرة مفخخة، وشكل ذلك إرباكا كبيرا للسعودية، ذلك أن إطالة أمد الحرب لترسيخ سيطرتها في محافظة المهرة سيقابله تصعيد حوثي يؤرق أمن المملكة ويهدد صادراتها النفطية، والتسريع في القضاء على الحوثيين سيقابله المطالبة برحيل القوات السعودية من المهرة قبل ترسيخ سيطرتها هناك لانتفاء الحاجة لتدخل المملكة في البلاد، وهنا ستبقى السعودية حائرة بين الخيارين.
لكن إذا شهد الصراع في اليمن مزيدا من التعقيد ومزيدا من الهجمات الحوثية على الأراضي السعودية، فإن السعودية ستجد نفسها مضطرة للتحالف مع تركيا وتشكيل تحالف سني ضد إيران والمليشيات الطائفية الموالية لها، كما أن الدعوات التي تطلقها أطراف يمنية للسلطة الشرعية بالاستغناء عن التحالف السعودي الإماراتي والاستعانة بتركيا للمساعدة في القضاء على المليشيات الانقلابية في اليمن، فإن ذلك يثير حفيظة السعودية لخشيتها من أن تتحول حديقتها الخلفية، اليمن، إلى مسرح للنفوذ التركي، وتكرار تجربة تدخلها في ليبيا باليمن.
ولذا، فإن السعودية ستحرص على أن يكون التدخل التركي في اليمن تحت عباءتها، حتى لا تخسر نفوذها تماما في البلاد، بالإضافة إلى أن تركيا ستكون حليفا مخلصا ومؤثرا في حالة بروز أي خطر يهدد المملكة وأمنها من قِبَل إيران والمليشيات الشيعية الموالية لها، خصوصا أن تنظيم الحشد الشعبي في العراق، التابع لإيران، بدأ بشراء أراضٍ في حدود العراق مع المملكة والاستيطان هناك، ما يعني أن السعودية ستظل هدفا قائما لإيران ومليشياتها حتى تحين الفرصة المناسبة للقضاء عليها.
- مآلات التدخل التركي
لا يمكن الآن الجزم بأن التدخل التركي في اليمن أمر حتمي، لكنه قد يحدث في حال استدعت التطورات الميدانية ذلك، وهذا التدخل قد يكون تحت العباءة السعودية في حال أنهت الدولتان خلافاتهما وشكلتا تحالفا سنيا ضد إيران ومليشياتها، وقد يكون بطلب من السلطة اليمنية الشرعية في حال تغير بعض قادتها أو توفي الرئيس عبد ربه منصور هادي، وهو تدخل سيكون بعد أن يصل الخذلان السعودي للحكومة الشرعية إلى مرحلة مفصلية في الصراع، ومن المؤكد أن تركيا في حال تدخلت فإنها ستتمكن من الحسم العسكري لصالح السلطة الشرعية والقضاء على الانقلاب في صنعاء وعدن في أسرع وقت، خصوصا أن جيشها محترف ويمتلك قدرات وأسلحة حديثة نوعية ومتطورة.
وفي المحصلة، يمكننا الجزم بأن التطورات الميدانية الأخيرة في تعز ومأرب هي من ستعيد رسم خريطة الصراع في اليمن وحدود التدخل الأجنبي وطبيعة التحالفات المحلية والإقليمية التي ستبرز بعد أن تتضح المسارات النهائية لتلك التطورات المتسارعة، خصوصا أن مواقف الجيش الوطني والمقاومة الشعبية متقدمة بمراحل كبيرة على مواقف قيادة السلطة الشرعية والتحالف السعودي الإماراتي الداعم لها.
كما أن التصعيد الحوثي الأخير ضد السلطة الشرعية وضد السعودية حشر الجميع في زاوية ضيقة، فتلاشت أمام ذلك التصعيد الأجندة الضيقة للجميع، ووجد الجيش الوطني والمقاومة الشعبية مبررات التصدي للتصعيد الحوثي والتصعيد المضاد، وبذلك تخرج الحرب عن الخط المرسوم لها من التحالف السعودي الإماراتي منذ نحو ست سنوات، من معارك استنزاف للجميع إلى معارك حسم، ولعل الأيام المقبلة حبلى بالمفاجآت التي لم تخطر على بال أحد.