بين الثورة والمقاومة.. عدن ميدان آخر لفبراير (تقرير)
- خاص السبت, 11 فبراير, 2017 - 09:00 مساءً
بين الثورة والمقاومة.. عدن ميدان آخر لفبراير (تقرير)

خرجت الجماهير من كل أحياء عدن ومديرياتها في الثالث من فبراير عام 2011 فيما عرف يومها بـ"الهبة الشعبية" التي دعت لها قيادة أحزاب اللقاء المشترك بالمحافظة احتجاجا على إمعان نظام صالح في تكريس سلطة الفساد وفساد السلطة.
 
اشتعلت شوارع المدينة كافة تحت أقدام الشعب الذي خرج في وجه الفساد والقمع، غير مكترث بالنقاط الأمنية والأطقم العسكرية والمدرعات التي انتشرت في أرجاء عدن، بعد عجز القوات الأمنية عن كبح جماح المحتجين، وفي النقطة الواقعة بين مديريتي خور مكسر وكريتر كان اللواء مهدي مقولة قائد المنطقة العسكرية الجنوبية (الرابعة حاليا) يشرف بنفسه على قطع الطريق العام وإغلاق الشارع الرئيسي، محاولا بكل ما أوتي من قوة أن يخمد أنفاس ثورة تتشكل.
 
وما إن أعلن ميدان التحرير في القاهرة سقوط نظام مبارك مساء الحادي عشر من فبراير، حتى تجمع العشرات من أبناء عدن في عدد من الشوارع والساحات العامة على ذات الشعار الذي ردده ثوار مصر خلال ثمانية عشر يوما "الشعب يريد إسقاط النظام".
 
 حاولت سلطات الأمن والجيش مواجهة الاحتجاجات، بيد أن المواجهة كانت تمنح المحتجين قوة إضافية ومزيدا من الإصرار على إشعال فتيل الثورة، الذي لم يلبث قليلا حتى اشتعل هناك في ساحة الشهداء بالمنصورة، حيث كان يتجمع ثوار عدن في الأيام التالية، وأخذوا يرددون شعارات الثورة وبدأ هتاف "ارحل" يشق المكان بأصوات مجلجلة تصدر عن جموع أخذت تتزايد لتكشف أجهزة القمع عن انحسار الأرض والنفوذ تحت أقدامها المترهلة.
 
شعرت قوات الأمن بالخطر الداهم على كراسي أسيادها، فتحركت في عصر الأربعاء السادس عشر من فبراير صوب الساحة بكل جنون وهيستريا للإجهاز على الثوار، لكن الثورة اشتعلت على وقع الرصاص الذي كان يمطر ساحتهم، ومن دماء أول شهيد للثورة محمد علي شاعن ورفاقه التي روت المكان استلهم الأحرار أبجديات الثورة التي غدت منذ تلك الساعة حقيقة لاشك فيها.
 
لم يترك الأحرار أماكنهم في الساحة، لكنهم انغرسوا فيها، ومثلهم فعل الأحرار في بقية مديريات عدن، حين زرعوا في كل مكانٍ ساحة، وفي كل ساحةٍ ثورة عنوانها الإصرار ووقودها الإرادة.
 
إذا الشعب يوما أراد الحياة
 
في حاضنة عدن الأولى كريتر، بالقرب قلعة صيرة التاريخية، وبين مسجدين وكنيستين، نصب الثوار أوتاد خيمتهم في "ساحة الحرية"، كما باتوا يطلقون عليها، وارتادتها جموع الثائرين تتقدمهم قيادات بارزة في المجتمع من جميع ألوان الطيف الفكري والسياسي، ومن كل فئاته وشرائحه المختلفة، يجمعهم هدف واحد، إسقاط نظام أوصل البلد إلى حافة السقوط، غير مكترثين بردة فعله التي يريد من خلالها إيقاف حركة التاريخ وإعادة عقارب الزمن إلى الوراء.
 
كلما أمعن النظام الفاسد في الكشف عن مساوئه وسيئاته كان الثوار يقدمون أجمل الصور وأنصعها تعبيرا عن سلمية ثورتهم ومدنية سلوكهم مهما كانت آلة القمع موغلة في العنف، وفي ساحات الثورة كانت تتجلى مظاهر الإبداع بمختلف أشكاله معبرة عن رمزية الفعل الثوري الذي أخرج مكنون المجتمع المتطلع إلى حياة كريمة تليق به، لتتحول الساحات إلى منصات انطلاق في فضاء واسع من الإبداع والإلهام، وشرع الثوار ينتظمون في برامج ثقافية وفعاليات متنوعة.
 
كانت عدن وثوارها في ساحات الثورة وميادين الكرامة فيها، في حراك ثوري لا يتوقف، ونشاط متواصل دون انقطاع، وفي متابعة مستمرة لما يجري في الساحة على امتداد الوطن، تتألم لما يواجه شباب الثورة من أعمال قمع عنيفة من قبل أجهزة النظام ومليشياته التي جندها لقتل الشباب مستخدما في ذلك القتلة من خريجي السجون، والمرتزقة والبلاطجة الذين لم يتورعوا عن ارتكاب الجريمة كلما أطلق لهم زعيم عصابة السبعين شارة البداية.
 
كانت عدن وهي تصنع أحداث الثورة لا تكف عن متابعة الأحداث والحوادث المتعلقة في بقية ساحات الحرية وميادين الثورة، حيث ينسج اليمانيون غدا مشرقا، ويطرّزون للمستقبل شمسه ويعزفون نشيده.
 
تأثير جمعة الكرامة
 
حين سالت دماء الحرية غزيرة في جمعة الكرامة بصنعاء كانت عدن تغلي حزنا على الأرواح الزكية التي أزهقتها آلة القتل والإجرام والدماء الطاهرة التي أراقتها أدوات القتلة وأيادي المجرمين، تألمت عدن بفعل الجرح النازف في صنعاء، وظلت عدن كذلك، كلما نال البغي ساحة من ساحات الثورة، وكلما طال الإجرام روحا جديدة أو فتحت مدية الإثم جرحا آخر في جسد الوطن.
 
وكانت ساحات عدن وهي تخط معالم الثورة الجديدة تترسم خطى ثورة الشعب الخالدة التي انطلقت قبل نصف قرن في مواجهة الاستبداد والاستعمار، وفي سبيل ذلك أحيت ذكرى سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر تخليدا لمآثرها واستلهاما لتضحيات أبطالها، في إصرار واضح على استكمال الأهداف السامية المتضمنة بناء الدولة المدنية الحديثة.
 
جاءت الفترة التي أعقبت انطلاق ثورة فبراير بما حملت من أحداث وتحديات لتثبت أن عدن حاضنة الثورة التي أسقطت النظام الفاسد، صارت مؤهلة للقيام بما هو أكبر وأهم من إسقاطه، بشبابها الثائر وقواها الوطنية ورموزها الثقافية والسياسية والاجتماعية، تصدرت المشهد وهي ترسم مشهد النهاية لحكم انتهت صلاحيته في 21 فبراير 2012، أجهزت الإرادة الشعبية على أنفاس النظام الآسن، وأخمدت أحلامه بالعودة إلى السلطة، عندما كتبت في واحدة من أنصع صفحات التاريخ أن النظام الذي جثم 33 سنة قد ذهب إلى الجحيم بدون رجوع، وأعلنت الإرادة الوطنية انتخاب عبدربه منصور هادي رئيسا للجمهورية، القرار الشعبي الذي صدر ممهورا بإمضاء ملايين اليمنيين الذين خرجوا لإرساء معالم اليمن الجديد.
 
ثورة ضد الحقبة السوداء

هبت عدن للتخلص من أعباء الحقبة السوداء وآثارها سيئة الذكر، وشرعت ثورة المؤسسات تتكفل بمهمة تطهير أجهزة الدولة ومرافقها ومؤسساتها من بقايا الفساد وأذنابه وأذرعه التي ظلت تعبث بكل شيء جميل في البلد، وظل شباب الثورة في عدن يؤكدون مواصلة السير لاستكمال أهداف الثورة، يراقبون ما يجري ويضبطون إيقاع حركة التغيير لتمضي إلى الأمام بما ينفع المجتمع ويلبي تطلعاته ويحقق أهداف ثورته التي لم تنطفئ شعلتها بعد.          
شاركت عدن كبقية أخواتها في مؤتمر الحوار الوطني، واحتل ابناؤها مواقع مهمة في الحوار إعدادا وتحضيرا ومشاركة ومخرجات، كما استخرجت عدن من المؤتمر ذاته إقرارا بتميزها واستحقاقها وضعا خاصا في يمن ما بعد الحوار الوطني الشامل، وهو ما نصت عليه مخرجات مؤتمر الحوار كواحدة من أهم الوثائق الوطنية التاريخية.
 
بيد أن لصوص الأرض والتاريخ كانوا يتهيؤون للانقضاض على اليمن برمته، ويستعدون للإجهاز على أحلام اليمنيين ونتائج الحوار وكأنها لم تكن.
 
عودة الهجوم
 
هاجمت عصابات البغي الغازية صنعاء بعدما نجحت في اقتحام المدن والقرى تحت شعار "المسيرة القرآنية"، وصرخة الموت لأمريكا، والنصر للإسلام، ولما رأت بقايا نظام المخلوع صالح في هذا الغول الخارج القادم من أقاصي الكهوف ضالتها في تحقيق غايتها الخبيثة في تدمير البلد وإشعال الحروب والصراعات بين مكوناته، انخرطت معه ليتشكل منهما مسخ شيطاني يتتبع رائحة الدم والبارود وينشر الدمار والخراب في كل مكان يصل إليه.
 
سقطت الدولة في صنعاء ومحافظات أخرى في قبضة العصابات، لتجد عدن نفسها في مهمة تاريخية جديدة ألا وهي مهمة احتضان الدولة الشرعية وقيادتها السياسية وقواها الوطنية، وإدارة المعركة مع مليشيات الانقلاب خاصة بعد ذهاب الرئيس عبدربه منصور هادي وقيادات في الدولة والحكومة إليها بداية العام 2015، وكانت عدن جديرة بهذا الدور الاستثنائي وتلك المهمة الوطنية، أضحت هي عاصمة البلد ومنطلق القيادة الشرعية وقاعدة عمل المؤسسات الوطنية والبعثات الدبلوماسية والمنظمات الدولية وغيرها.
 
توجهت أنظار العالم والمجتمع الدولي الذي لم يعترف بسلطة العصابات الهمجية الجاثمة على صدر صنعاء لتجعلها كالقرية المهجورة بفعل ممارساتها التي لا تمت لإدارة الدولة بصلة.
 
وهنا وجدت العصابات فرصتها في الدفع بقطعانها المسلحة إلى عدن وبقية محافظات الوسط والجنوب، وهي تظن أن إسقاط عدن في قبضتها يمنحها الشرعية ويضفي على سلطتها المشروعية، أعلن سيد الكهف "الحرب على دواعش عدن وتعز"، وقال زعيم المرتزقة: "سنلاحقهم إلى عدن ونطردهم منها"، وشحنت الناقلات بآلاف المسلحين الذين لم يكن لهم هدف سوى استباحة عدن باعتبارها آخر قلعة للدولة والثورة والجمهورية.
 
وبعدما خرج الرئيس هادي وكبار مساعديه ورجال دولته من عدن أمام زحف القطعان المسعورة، إلا أن عدن لم تغادرها روح  الرفض والمقاومة، ولمثل هذا اليوم كانت عدن تعد نفسها وخيرة أبنائها، أبناؤها الذين لبوا نداء الثورة ضد صالح وعصابته، لبوا النداء مرة أخرى، نداء المقاومة والدفاع عن المدينة إزاء هجمة عصابات المخلوع صالح التي جاءت هذه المرة ترتدي عباءة الكهنوت الامامي الوالغ في تخلفه، والموغل في همجيته.
 
وأخذت عدن تتهيأ لدفن مشروعه القبيح إلى الأبد، لأن المدينة المفتوحة على العالم الرحب بكل ما أوتيت من رحابة البحر وامتداده تلفظ كل جيفة أكل عليها دهر الكهف وشرب، شباب الثورة باتوا قادة المقاومة، والثوار صاروا شهداء وجرحى وأسرى في سجون المليشيات ومشردين، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا. 
 
وأعلن شباب الثورة موقفهم واضحا لا لبس فيه: لا للانقلاب الحوثي، و سقطوا شهداءً في سبيل التصدي للانقلاب منهم الثائر أحمد سهيل وعوض اليافعي وأحمد الدجح الذي ثبت مع إخوانه حتى استشهد ليلحق بإخوانه الأحرار المقاومين. 
 
ها هي عدن الثورة والمقاومة تتعافى، ومن جديد تعود حاضنة للوطن، وعاصمة الجمهورية الوليدة، رائدة اليمن الذي يتشكل، وحادية للمستقبل المنشود.
 


التعليقات