جدل يتجدد حول كومونة باريس وأحداثها الدموية التي هزت العاصمة الفرنسية
- الجزيرة نت الأحد, 14 مارس, 2021 - 11:44 مساءً
جدل يتجدد حول كومونة باريس وأحداثها الدموية التي هزت العاصمة الفرنسية

[ كومونة باريس ]

انتفاضة الطبقة العاملة التي هزت العالم ومهدت للثورات الاشتراكية والحركات الماركسية والسوفياتية تعود لتقسم العاصمة الفرنسية التي شهدت قبل 150 عاما حمام دم راح ضحيته آلاف الباريسيين

 

في سجلات اضطرابات فرنسا الثورية، تظل ذكرى كومونة باريس عام 1871 وحواجزها الدموية مكانة حادة وقاتمة، وأدى قمعها الوحشي من قبل الجيش الفرنسي إلى إحداث جروح لم تلتئم رغم مرور قرن ونصف القرن عليها.

 

كومونة باريس -أو الثورة الفرنسية الرابعة- هي حكومة اشتراكية راديكالية ومعادية للكنيسة أدارت باريس فترة قصيرة من 18 مارس/آذار 1871 وحتى 28 مايو/أيار من العام ذاته، كنتيجة لاجتياح الجيش البروسي المدينة، واعتبرت أول ثورة اشتراكية في العصر الحديث قبل أن تنتهي بحمام دم خلال ما سمي "الأسبوع الدامي".

 

في تقرير صحيفة غارديان البريطانية ينقل المحرر المشارك جوليان كومان عن ماتيلدا لاريير المؤرخة المتخصصة بالحركات الراديكالية في فرنسا القرن التاسع عشر قولها "على عكس أحداث الثورة الفرنسية عام 1789، لم يتم دمج الكومونة بشكل حقيقي في القصة الوطنية". كانت الكومونة متوحشة، فوضوية ويسيطر عليها الفقراء الباريسيون، مكروهة من البرجوازية الليبرالية وكذلك من قبل المحافظين والملكيين من اليمين.

 

وتضيف لاريير "لم تصبح كومونة عام 1871 جزءا من ذاكرة جماعية توافقية" ففي مجتمع "محترم" كان ينظر إليها على أنها غير مقبولة. لكن بعد مرور 150 عاما بالضبط، بدأ "الكومونيون" في العودة، مقسّمين باريس من جديد.

 

الاعتراف

للاحتفال بالذكرى السنوية، ستقوم عمدة باريس آن هيدالغو، هذا الشهر، بزرع شجرة تذكارية في مونمارتر، بوتقة الثورة. وستمتلئ ساحة لويس ميشيل، التي سُميت على اسم أكثر أعضاء الكومونة شهرة من النساء، بالباريسيات اللواتي يحملن صورا للخبازين وصانعي الأحذية والعاملات في غسل الملابس الذين سيطروا على العاصمة عام 1871، وستُطلق الفعالية "نحن الكومونة" سلسلة من المعارض والمحاضرات والحفلات الموسيقية والمسرحيات والقراءات الشعرية، وتستمر حتى مايو/أيار المقبل.

 

ووفقا لباتريس مستشارة باريس المكلفة بالإشراف على الذكرى السنوية، فقد حان الوقت للاعتراف بثوار عام 1871 كرواد راديكاليين، وقالت "نحن نتحدث عن مجموعة كبيرة من المواطنين الذين اجتمعوا معا لاتخاذ مصيرهم بأيديهم، مثلت الكومونة حالة حداثية/تقدمية وكانت تطلعاتها قريبة مما يريده بعض الناس اليوم".

 

وأضافت "كافح الكومونيون من أجل الحصول على ممثلين سياسيين شرعيين وخاضعين للمساءلة، لقد أرادوا إعطاء حق التصويت للنساء اللواتي لعبن دورا كبيرا في الكومونة، ودافعوا عن المساواة في الأجور مطالبين بمنازل لإيواء المشردين، وعرضت الكومونة منح الجنسية للأجانب وحرية الاحتكام إلى القانون.. هناك الكثير من مطالب اليوم".

 

لكن هذا التحليل لم يلق قبولا عاما، وأثار التكريم غضب المحافظين، بما في ذلك رودولف غرانييه عضو مجلس حي مونمارتر وعضو مجلس مدينة باريس الذي يعتزم مقاطعة الاحتفال، وقال لغارديان "عندما يدافع اليسار عن الكومونة، يكون الأمر نفسه عندما يدافع اليسار عن الشيوعية. يقولون إن هذه الأفكار كانت جميلة، ولكن لم يتم تنفيذها بشكل صحيح".

 

ويردف "ولكن سواء تحدث المرء عن الشيوعية أو الكومونة، فإنه ينتهي بإراقة الدماء، وإذا كانت الأيديولوجية تشمل القتل، فحينئذٍ، في رأيي، ليس هناك مكان في السياسة للاحتفال بهذه الأيديولوجية."

 

الشهر الماضي، اتهم غرانييه عمدة باريس باستغلال الذكرى السنوية لتعزيز مكانتها في اليسار قبل الانتخابات الرئاسية العام المقبل. كذلك يعترض المحافظون الباريسيون أيضا على إعانات المجلس لجمعية أصدقاء الكومونة، وهي منظمة يزعم غرانير أنها "تمجد أحداث الكومونة الأكثر عنفا".

 

ومع اشتعال الجدال، خصصت صحيفة لوموند صفحة للنقاش بعنوان "كومونة 1871: ذكرى شديدة التوتر". وطرح الإصدار الأخير من المجلة السياسية الأسبوعية "لو إكسبريس" السؤال التالي: هل ينبغي الاحتفال بالذكرى 150 للكومونية؟.

 

ولا توجد إجابة مباشرة، فقد كان وجود الكومونة قصيرا وداميا للغاية.

 

ماذا حدث؟

في يناير/كانون الثاني 1871، استسلمت فرنسا للجيش البروسي بقيادة رئيس وزراء المملكة أوتو فون بسمارك، بعد حصار دام 3 أشهر جعل باريس تجثو على ركبتيها. ومع انهيار الإمبراطورية الثانية بفرنسا، تم انتخاب حكومة جديدة مؤيدة للملكية للتفاوض مع الألمان. لكن وسط الفوضى والإذلال الوطني، رفض النصف الأفقر من باريس التخلي عن أسلحته وقرر الانتفاض على جيشه وحكومته. وفي 18 مارس/آذار، استولى الثوار على المباني الحكومية. وفر الرئيس المنتخب أدولف تيير، مؤخرا، إلى فرساي.

 

واستمرت الكومونة، المحاصرة من جميع الجوانب، لمدة 72 يوما مضطربة قبل أن يتم قمعها بوحشية. وكتب الروائي الشهير إميل زولا "لم يحدث من قبل أن وقعت أزمة أكثر فظاعة في مدينة عظيمة". لقي حتفه على المتاريس ما لا يقل عن 8 آلاف من الكومونة، بمن فيهم العديد من النساء والأطفال، أو أطلق عليهم النار والرصاص الحي خلال "الأسبوع الدموي" من 21 إلى 28 مايو/أيار. ومع تصاعد أعمال العنف خارج نطاق السيطرة، قتل الكومونيون رئيس أساقفة باريس وأكثر من 50 رهينة آخرين، العديد منهم قساوسة.

 

وبحسب تقرير غارديان، استولت الأجيال القادمة من الشيوعيين على إرث التجربة الثورية التي هزت أوروبا. ووصف كارل ماركس الكومونة بأنها "النذير المجيد بمجتمع جديد" ورآها "المثال الأول لديكتاتورية الطبقة العاملة/البروليتاريا" في حين اعتبرها لينين بمثابة مقدمة للثورة الروسية.

 

عام 1936، أيام حكومة الجبهة الشعبية المناهضة للفاشية في فرنسا، قام 500 ألف يساري بزيارة مقبرة بيريه لاشيز في باريس لتكريم "شهداء الكومونة". ولكن، وبحلول أواخر القرن العشرين، عندما وجد الحزب الشيوعي الفرنسي نفسه في الجانب الخطأ من التاريخ، قلّ الحديث عن الكومونة.

 

فرنسا الحديثة منقسمة

بعد قرن ونصف القرن، كما تقول لاريير، في فرنسا ما بعد الصناعية، تعرب "طبقة فقيرة منخفضة الأجور" جديدة عن مطالب مماثلة، إذ بدأت الحركات الشعبية خارج التيار السياسي السائد في استحضار ذكرى عام 1871. ففي عام 2016، عندما احتل المتظاهرون وسط باريس وعقدوا تجمعات ليلية في ساحة الجمهورية، أعيدت تسمية الساحة بشكل غير رسمي باسم "ساحة الكومونة".

 

وكانت روح الكومونة مجسدة بشعارات حركة "السترات الصفراء" العنيفة أحيانا "الشعب صاحب السيادة، المسؤولون المنتخبون، أنتم تتحملون المسؤولية" رغم أن قبضة المتظاهرين على الأمور كانت مهتزة بعض الأحيان. فقد كُتب على إحدى الرسومات على جانب كنيسة القلب المقدس بحي مونمارتر، والتي تمت مشاركتها على نطاق واسع على وسائل التواصل "كومونة باريس لعام 1781/السترات الصفراء لعام 2018".

 

يعود غرانييه فيقول "هناك نقاط تقارب مع حركة السترات الصفراء، الثورة ومحاربة الظلم تقليد فرنسي. لكن الفارق الكبير عن القرون الماضية أن لدينا الآن دولة قانون. لا أستطيع أن أفهم لماذا تريد حركة سياسية الاحتفال بحركة تمرد مثل الكومونة، إنه أمر يصدمني".

 

وتقول لاريير "أصبح المحافظون أكثر حساسية تجاه هذا الموضوع لأنه موجود أمامهم الآن، في الشوارع وعلى الجدران. وكانت الكومونة قد طرحت أسئلة حول السلطة المركزية، الديمقراطية التمثيلية والسيادة الشعبية. وطرحت "السترات الصفراء" نفس الأسئلة، وإن كان ذلك في سياق مختلف، وتساءلت: هل هناك وسائل أخرى يمكن من خلالها ممارسة السيادة الشعبية؟ وتم إحياء هذه الموضوعات، ولهذا السبب، على الجانب الآخر من الطيف، هناك نفور تجاه ذاكرة الكومونة".

 

جدل حول الكنيسة

مع توتر الأجواء، جُرت كنيسة القلب المقدس، التي تلوح في الأفق فوق ساحة لويس ميشيل في مونمارتر، إلى المعركة، وهي واحدة من أكبر مناطق الجذب السياحي في باريس.

 

صُنعت هذه الكنيسة البيضاء الشاسعة كأحد أعمال التكفير عن الذنب في أعقاب النتائج الكارثية للحرب الفرنسية البروسية. وبحلول الوقت الذي بدأت فيه أعمال البناء، الممولة من التبرعات الخاصة، ارتبطت ارتباطا وثيقا بالعداء الكاثوليكي تجاه الكومونة.

 

ولتجنب إرسال رسائل غير مريحة، أرجأ مجلس المدينة قرارا كان يفترض صدوره هذا العام بشأن منح الكنيسة مكانة في قائمة تسمح لها بتلقي الدعم الحكومي. ويقول غرانيير "هناك أشخاص في تحالف هيدالغو (عمدة باريس) يريدون تدمير كنيسة القلب المقدس لأنهم يرون أنه نصب تذكاري ضد الكومونة، بعد نوتردام، هذه هي الكنيسة الأكثر زيارة في باريس" ويردف بقوله "إعادة كتابة التاريخ لتسجيل نقاط سياسية ليست طريقة جيدة لممارسة السياسة".

 

لورانس باتريس، مستشارة باريس المكلفة بالإشراف على الذكرى السنوية، مرتبكة إلى حد ما من الضجة العامة، وتقول عن الرئيس مانويل ماكرون "فرنسا لديها رئيس يدّعي أنه يتجاوز اليسار واليمين ولكنه يتصرف أكثر فأكثر كسياسي يميني".

 

وتأمل في أنه وبمجرد بدء الاحتفالات، سيتم نسيان الحرب الكلامية، وتقول "هذه الاحتفالات لا تتعلق بالاحتفال بالعنف. يجب أن نتذكر أن الكومونيين هم من دفعوا أعلى ثمن للانتفاضة، في الموت وفي الإبعاد " وفيما يتعلق بجدل كنيسة "القلب المقدس" رحبت باتريس بضمها للقائمة.

 

ومع ذلك، فإن العداءات القديمة لا تموت بسرعة وسهولة. ففي عام 1875، عندما تم وضع الحجر الأول من كنيسة "القلب المقدس" أوضح هوبير روهولت دي فلوري، أحد مموليها الرئيسيين، ازدراءه للكومونات المهزومة، فقال "بالنسبة لكل من يحبون الدين وبلدهم، سيكون بناء كنيسة في المكان الذي خُطفت فيه المدافع من أجل الانتفاضة مصدر فرح".


التعليقات