إثارة نفسية وتلاعب بالعقل البشري.. لعبة سينمائية يجيدها تشارلي كوفمان
- الجزيرة نت الثلاثاء, 10 نوفمبر, 2020 - 01:40 مساءً
إثارة نفسية وتلاعب بالعقل البشري.. لعبة سينمائية يجيدها تشارلي كوفمان

[ "أفكر في إنهاء الأمور الآن" المصنف كفيلم رعب ليس رعبا حقيقيا وإنما إثارة نفسية (مواقع التواصل) ]

قد يكون تشارلي كوفمان أحد أكثر مخرجي هوليوود عبثية وتجريبا، فهو صاحب رؤية ميتافيزيقية غرائبية تظهر دائما في أعماله التي تتكون غالبا من طبقات مجازية، وتميل إلى الوجود في عوالم موازية، حيث القواعد العادية للواقع والسينما لا تنطبق على أفلامه التي تتميز بانعطافات سريالية، تجعلها تستغرق بعض الوقت، مع أكثر من مشاهدة لتحليل الفيلم والوصول إلى جوهره، ثم مشاهدة أخيرة للاستمتاع.

 

في فيلمه الأخير "أفكر في إنهاء الأمور" "I'm thinking of ending things" الذي عرض على نتفليكس، يواصل كوفمان التجريب فيما يتعلق بالعقل والوجود الإنساني، مما يخلق حالة من التوتر للمشاهد، خاصة عندما نقرأ تصنيف "رعب" على الفيلم، فينتظر المشاهد الرعب منذ المشهد الأول، لكنه لا يأتي، أو يأتي ليس كما نعرفه في أفلام الرعب التقليدية، لكنه رعب يتعلق بوجودنا البشري ورغباتنا وأحلامنا غير المتحققة. رعب الوحدة والعزلة والعجز والموت الذي يحطم كل الآمال.

 

"تعيش الحيوانات الأخرى في الوقت الحاضر، بينما البشر لا يستطيعون، لذلك ابتدعوا الأمل" جاءت تلك الجملة في حوار داخل عقل البطلة جيسي باكلي، التي عرفت في أول الأمر باسم "لوسي"، ثم تغير اسمها أكثر من مرة على مدار الفيلم.

 

يظهر الأمل في الفيلم في شكل ضيف خجول يتوارى لكنه يظهر من آن لآخر بشكل متقطع في وميض من الذكريات القديمة، أو المستقبل المتخيل، أو في إعلانات الخمسينيات والمسرحيات الرومانسية، لكن تبقى الكآبة هي السمة الأساسية للفيلم، والقلق هو الشعور المصاحب لمشاهدته.

 

الفيلم مأخوذ من رواية بنفس العنوان، وهي الرواية الأولى للكاتب الكندي إيان ريد. صدرت عام 2016 وصنفت على أنها رواية رعب وإثارة. تدور الرواية حول شاب يصطحب صديقته الجديدة نسبيا لمقابلة والديه في مزرعة نائية حيث ولد ونشأ.

 

حافظ كوفمان على خط السرد الرئيسي واضح بما فيه الكفاية، رغم امتداداته الطويلة من الإحالات الفلسفية، والإشارات الغامضة إلى مأساة غير محددة، بالإضافة إلى الفراغ الواضح في الحدث الرئيسي، الذي يجعل الفيلم مختلفا إلى حد كبير عن السرد السينمائي الديناميكي، مرتكزا بقوة على الحوار الفلسفي الأدبي المتبادل بين البطلين في بيئة خانقة لسيارة تسير على الطرق المنعزلة، تحت الثلوج المتساقطة بكثافة.

 

مراوحة بين عقلين

 

يغلب على الفيلم الأفكار الداخلية التي تدور في عقل البطلة، التي توجد بدورها في عقل البطل، دوائر من التداخل بين الأزمان، بلا منطق، ليشبه الفيلم الأحلام ولوحات سلفادور دالي التي تعبر عن الزمن بشكل سائل يتشكل تبعا للأجواء المحيطة به.

 

متاهات العقل البشري التي يدور فيها الفيلم، نجد تمثيلاتها البصرية في المشاهد التي تتوجه فيها الكاميرا ببطء حول الغرف الفارغة، والممرات الموحشة، مع مزيج حزين من الخلفيات الباهتة، والزهور القاتمة، بالإضافة إلى اللقطات المقربة لوجوه الأبطال، وملابسهم الثقيلة التي تشبه القيود حول أجسادهم.

 

تبدو البطلة متورطة بالكامل في أفكارها التي تتناقض مع أفعالها، ورغم أن أفكارها بالكامل تذهب في اتجاه إنهاء العلاقة مع صديقها، فإنها تستمر في رحلة الذهاب، وهو ما يلامس مشاعرنا كبشر، ويذكرنا بكل القرارات التي تمنينا أن ننفذها بشجاعة، لكن أجبرتنا الحياة على الاستمرار في الطريق الممهد الذي سلكه الكثيرون قبلنا، خوفا من السير في الطرق الجديدة أو استكشاف ما لم نعرفه بعد.

 

لحظة الوصول إلى منزل والدي جيك تترسخ شكوك البطلة، وتتأكد رغبتها في إنهاء كل شيء، بعد إصرار جيك على أخذها في جولة بالمزرعة، ودفعها دفعا إلى التفكير في الحياة البائسة للأغنام والحملان الملقاة بإهمال يغطيها الثلج بعد أن ماتت.

 

ينهي جيك الجولة بشكل مفاجئ، بعدما أثار مشاعر لوسي بحوار عدمي حول الحياة والموت، كأنه يقرأ ما في عقلها ويدفعها أكثر إلى الخوف، مثلها مثل المشاهد الذي يشعر بالترقب والقلق مع بداية كل مشهد، كما لو كان كل مشهد هو المشهد الذي تقرر فيه البطلة إنهاء كل شيء، دون أن نعرف تماما ما تقصده لوسي بإنهاء كل شيء، هل هو نهاية علاقتها بجيك، أم نهاية حياتها أم نهاية الطريقة التي تنظر بها إلى العالم.

 

تنسحب كل تلك التساؤلات بالكامل على المشاهد، وتجبره إلى إعادة التفكير في الشكل الذي اختاره لحياته. ربما من هنا تأتي صعوبة الفيلم، وتراجع الكثير من المشاهدين عن إنهائه. هذا الفيلم لا يناسب المشاهد الذي يبحث عن المتعة، أو يحاول الهروب من أفكاره، لأنه يضعنا بالكامل في قلب عقلنا الباطن، في مواجهة كل الأفكار التي نخشى مواجهتها.

 

سريالية الزمن السائل

 

تصبح الأمور سريالية بالكامل في الجزء الثاني من الفيلم، عندما تتداخل الأزمنة، ويتحول والدا البطل عبر مراحل عمرية مختلفة، كما لو أننا نشهد حياتهم بالكامل في ليلة عاصفة، يصعب فيها مغادرة المكان، الذي يبدو مثل متاهة تحبس داخلها ذاكرة الأبطال الأربعة، وأفكارهم وأجسادهم.

 

تبدو رحلة العودة أكثر وحشة وسوداوية من رحلة الذهاب بسبب الظلام والفراغ الأبيض الذي يحيط بالسيارة ويسجن الأبطال بداخلها.

 

يقترب الفيلم من نهايته، لنكتشف أن الفيلم بالكامل سيناريوهات مختلفة، يعيشها الرجل العجوز. حارس المدرسة الذي نراه منذ بداية الفيلم في لقطات متفرقة، يهيم وحيدا في ممرات المدرسة، ينظف أرضيات، لا يخطو فوقها، ويشاهد عرضا مسرحيا ربما يدور في عقله هو الآخر.

 

تنتهي حياة جيك وحياة المسن بشكل متداخل، وتختفي سيارة الحارس تحت الثلج، دون أن نعرف بشكل يقيني من الذي انتهت حياته، ومن هؤلاء الشخوص الذي عايشنا قصتهم طوال 134 دقيقة من الإثارة والغموض.

 


التعليقات